تُخلَق حول الموسيقى الكلاسيكية الغربية، هالة من الجدية المفرطة، والقيود البروتوكولية. في العالم اليوم، بدأت المسألة تطرح مشكلة حقيقية، لناحية فقدان التواصل مع الجمهور، لذا اقُترحت حلول كثيرة لتغيير هذه الصورة النمطية. أمّا عازف البيانو اللبناني العالمي وليد حوراني، فيمارس، بعفوية، سلوكاً مغايراً عن زملائه، معتمداً سياسة كسر الجليد مع الناس، من خلال التواصل معهم (بالمزاح غالباً) بين معزوفة وأخرى. لا جدية إلا أثناء العزف. لا تحيّات أوتوماتيكية. لا خفر، ولا ملامح، توحي بأنّ الموسيقي الكلاسيكي متنسّكٌ معزولٌ في صومعة لا يفارقها إلا لتقديم أمسية. لم يلتزم حوراني بكلّ هذه «المقدّسات». حتى البزّة الرسمية، استبدلها بقميص، فوقها علامة فارقة: إنّها «الجيليه» التي تزيّنها مدوّنة موسيقية...يعيش وليد حوراني في أميركا، ويزور لبنان بين فترة وأخرى. التقيناه أثناء التمارين التي سبقت أمسيته الأخيرة في «الجامعة الأميركية في بيروت». قبيل اللقاء تساءلنا: إذا كانت «الجيليه» خاصة بالأمسيات، فماذا يرتدي وليد حوراني أثناء التمارين؟ من المسافة البعيدة التي تفصل مدخل الـ«أسمبلي هول» عن مسرحه، نلحظ «تي شيرت» عادية. عن قرب، نقرأ عليها بالإنكليزيّة «10 أصابع / 88 مفتاحاً (عدد مفاتيح البيانو) / لا مشكلة»! يكفي ذلك للتخفيف من رهبة اللقاء بعازف بيانو بمهارة حوراني. وما بقي من تلك الرهبة، يلغيه حوراني عندما يقترح علينا الجلوس على الأرض، عند الدرج المؤدي إلى المسرح، مرفِقاً الاقتراح ببعض المزاح طبعاً.
ولد وليد حوراني في الولايات المتحدة عام 1948. «كان والدي يعمل في الأمم المتحدة، ففرضَت إحدى مهمّاته انتقال العائلة إلى الولايات المتحدة»، يخبرنا حوراني. «عدنا إلى لبنان عام 1951، وسكنّا في شارع المكحول (منطقة رأس بيروت)». أمّا قدَره أن يصبح عازف بيانو، فأسهمت فيه أحداث ومصادفات عدة. «كان لدينا غراموفون سهل الاستخدام. يكفي أن تدخل فيه الأسطوانة لكي تنطلق مِن تلقائها»، يتذكّر العازف الستينيّ بدهشة الطفل. «ما زلت أذكُر تلك الأغنية الشعبية الغريبة»، يقول مبتسماً، قبل أن يشرع في أداء كاملٍ لأغنية لبنانية ساخرة وطويلة بعنوان Contact (احتكاك)، مع ما تتضمنه من مونولوجات فاصلة بين مقطعَيْن غنائيَّيْن. من Contact انتقل إلى التهام ما في متناوله من موسيقى وأغنيات... وبدأ ابن الأربع سنوات دراسة آلة البيانو. «كنت خارجاً من المنزل برفقة والدي، فسمعت صوت بيانو آتياً من إحدى الشقق، فقلت له: «أنا أسمع موسيقى!»». ردَّ عليه والده: «سنعالج الأمر فور عودتنا». هكذا بدأ وليد الصغير دروسه الخاصة الأولى في الموسيقى مع الجارة الأرمنية، أستاذة البيانو سونيا فرتابيديان.
في عام 1961، زار لبنان آرام ختشاتوريان (1903 ـــــ 1978)، أحد أبرز المؤلفين السوفيات من أصلٍ أرمني في القرن العشرين. في المركز الثقافي السوفياتي، طلب الحاضرون من المؤلف الكبير أن يعزف لهم رائعته الأوركسترالية «رقصة السيف». قبِل ختشاتوريان، فقام بتوليف آنيّ (إذا صحّ التعبير) لمؤلفته، وعزفها على البيانو. يقول حوراني: «بعد ذلك، قدّمني أحدهم إلى المؤلف السوفياتي، فعزفت بدوري». الفتى الذي ألمّ بالتأليف منذ صغره، أدّى أمام الزائر معزوفتَيْن من تأليفه بعنوان «حزّوقة» وAllegro. أعجِب المعلّم بالصبي الموهوب، ووعده بالسعي إلى تأمين منحة له للدراسة في الاتحاد السوفياتي. لم يأخذ حوراني المسألة على محمل الجدّ. فهذا أشبه بالحلم. غير أن السيد ختشاتوريان وفى بوعده، فسافر وليد إلى موسكو في منحة للدراسة في «كونسرفاتوار تشايكوفسكي».
قضى التلميذ اللبناني عشر سنوات في روسيا، فقدِّر له أن يشهد الفترة الذهبية للموسيقى الكلاسيكية هناك. «درسْت ثلاث سنوات مع إميل غيللز (أحد أهم رموز روسيا والعالم في تاريخ البيانو)»، يخبرنا حوراني، ثم يضيف متأسفاً: «هل تصدّق أنّه في أميركا، حين أخبرهم عن ذلك، لا يعني لهم الأمر الكثير»! يدفعه اهتمامنا بما يقول إلى الغوص بحماسة في ذكرياته السوفياتية. «بين الحصص المتخصّصة والمصادفات العابرة، التقيت في الكونسرفاتوار روستروبوفيتش، وريختر، وشوستاكوفيتش، وأويْستراخ، وأوبورين، ومرافينسْكي، وروجْدِسْتفينسْكي، وغيرهم». قد لا تعني هذه الأسماء الكثير لغير المهتمين بالموسيقى الكلاسيكية. لكن، من دون مبالغة، فإنّ هؤلاء أساطير موسيقية عالمية (لا روسية فقط) في مجال العزف على البيانو، والكمان، والتشيلو، وقيادة الأوركسترا.
من روسيا الشيوعية، انتقل وليد حوراني إلى قلب المعسكر الغربي، إلى الولايات المتحدة، متسلّحاً بشهادة وخبرة لن يستطيع عدو الاتحاد السوفياتي اللدود غضّ النظر عنهما. كما أنّه لن يتأخر في استغلالهما: «ذهبت إلى أميركا بعدما دبّر لي أحدهم موعداً مع أورماندي (أحد أشهر قادة الأوركسترا)، الذي أعجِب بقدراتي الموسيقية فقدّمني إلى رودولف سركن (من كبار عازفي البيانو في العالم أيضاً) ما منحني ثقة إضافية. لكنّ عقداً عرضته عليَّ إحدى المؤسسات الفنية، أدى إلى استغلالي وإرهاقي لمدة سنتيْن، قدّمت خلالهما أكثر من ستين حفلة بمردود زهيد».
في الولايات المتحدة أيضاً، درس حوراني مع المؤلف ويليام أولبرايت، وألمّ بالجاز، والـRag Time، ثم اتجه جدياً إلى التأليف. كما عاش تجربة عصيبة يفضّل عدم الكلام عنها، إذ أصيب بمرض سلبه سنوات ثمينة من عمره وكاد يودي بحياته. بعد ذلك، أصدر أربع أسطوانات، وبدأ يقدّم الأمسيات في لبنان والعالم. حصد جوائز التقدير العالمية وأوسمة عديدة من الدولة اللبنانية (جائزة سعيد عقل، وسام الاستحقاق اللبناني، وسام الأرز...).
يعشق حوراني الطبيعة. لا يفضل مؤلفاً معيناً، لكنّه رومنطيقي النزعة. عازفه المفضل أرتور روبنشتاين. شخصيته المفضلة زياد الرحباني. وشعاره الوحيد: «الشهرة والمال يحرمان الإنسان السعادة الحقيقة. أنا أفضّل السعادة».


5 تواريخ

1948
الولادة في نيويورك

1963
سافر إلى موسكو بمنحة لدراسة الموسيقى في كونسرفاتوار تشايكوفسكي

1993
أصدر أول أسطوانة بعنوان Side by Side

2007
أدت English Chamber Orchestra من تأليفه كونشرتو الساكسوفون ألتو والوتريات والآلات الإيقاعية

2010
أحيا أخيراً أمسية موسيقية في «الجامعة الأميركيّة في بيروت»