تفتح نتائج اتفاقية التيسير العربية واتفاقية الشراكة الأوروبية الباب أمام مسار رسمته الحكومات اللبنانية المتعاقبة قبل عقدين من الزمن. هو مسار «انبطاحي ــ استسلامي». فمنذ انتهاء الحرب الأهلية، قرّرت الحكومة الانفتاح على الدول العربية، ولا سيما على الدول الخليجية. وقّع لبنان مع هذه الدول اتفاقيات تجارة ثنائية لتسهيل انسياب البضائع والسلع والأفراد من لبنان إليها وبالعكس. وبحسب وزير المال السابق جورج قرم «تبيّن لنا أن هذه الاتفاقيات أدّت إلى خفض الرسوم الجمركية لتصبح نتائجها كارثية على الصادرات اللبنانية التي كانت قد خرجت حديثاً من الحرب الأهلية». ما كان واضحاً في تلك الفترة هو أن السياسات الاقتصادية اتجهت صوب فتح المجال واسعاً أمام الريوع والمضاربات العقارية والاستفادة من الفوائد المصرفية الممولة بالدين العام... لم تكن الحكومة تتجه أبداً صوب تعزيز الإنتاج المحلي والتخفيف من كلفته، بل كانت تبحث عن أموال سهلة وسريعة يمكن الاستحواذ عليها بسهولة أيضاً.ولم تكد الاتفاقيات الثنائية تدخل حيّز التنفيذ حتى وقّع لبنان اتفاقية التيسير العربية، من دون أي نقاش. بموجب هذه الاتفاقية، فتحت الحدود بين لبنان والدول العربية على مصراعيها، مع بعض الاستثناءات التي حصلت عليها كل دولة ولفترة محدّدة. استفاد لبنان من هذه الفترة المحدّدة، لكنه لم يستطع أن يمنع «اجتياح» الصادرات العربية للأسواق المحلية، ولم يستطع أن يمنع العوائق العربية أمام صادراته.
يجب أن يكون لدينا تصور واضح ومطالب محدّدة غير الشحادة

دخلت اتفاقية التيسير العربية حيّز التنفيذ في عام 1998، إلا أن المسار «الانبطاحي» للبنان أبى إلا أن يتخذ خطوة استباقية للتمهيد. ففي عام 2001، أقرّت الحكومة ومجلس النواب قانون الضريبة على القيمة المضافة، ثم أجرت إعادة نظر شاملة للرسوم الجمركية لمواكبة تطبيق هذا القانون. وبنتيجة إعادة النظر، جرى خفض العديد من الرسوم الجمركية على السلع الواردة إلى لبنان تمهيداً لانضمام لبنان إلى اتفاقية الشراكة الأوروبية. ولكي تعوّض الحكومة الإيرادات التي نتجت من خفض الرسوم الجمركية، اقترح وزير المال (حينها) فؤاد السنيورة وضع رسم استهلاك داخلي على بعض السلع. هذا الاقتراح جاء ليكمل السياسات المتبعة لمصلحة الريوع وإخضاع الاستهلاك للعبء الضريبي الأكبر. رسم الاستهلاك الداخلي طاول السلع الأكثر طلباً مثل البنزين والسيارات والتبغ والتنباك والكحول وغيرها من السلع التي عُدّت سلعاً كمالية. اليوم، تجبي الخزينة نحو 1500 مليار ليرة، أي ما يوازي مليار دولار، من رسم الاستهلاك الداخلي، مقارنة مع 1800 مليار ليرة حاصلات ضريبة القيمة المضافة.
يقول رئيس جمعية الصناعيين فادي الجميل لـ«الأخبار»، إن مصر استبقت مفاوضات انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية برفع الرسوم الجمركية تمهيداً للتفاوض من سقف رسوم أعلى، خلافاً لما قام به لبنان عندما استبق مفاوضات انضمامه إلى الشراكة الأوروبية بخفض الرسوم. اليوم، تعدّ «نسبة الرسوم الجمركية مجحفة بحق الاقتصاد اللبناني، لكن يمكن رفعها من خلال آليات انضمام لبنان إلى المنظمة». ويشير الجميل إلى أن هناك فكرة خاطئة لدى المسؤولين في لبنان عن انضمام لبنان إلى منظمة التجارة العالمية «مفادها أنه لا يمكن معالجة الخلل الناتج من الرسوم الجمركية المتدنية من خلال آليات منظمة التجارة العالمية، لكن النقاش مع وفد المنظمة أخيراً أظهر أنه يمكن تصحيح هذه المعدلات لسلع معينة».
في الواقع، لا يمثّل التصحيح مشكلة في لبنان، بل المشكلة تكمن في إرادة التصحيح والانبطاح السياسي الذي يمارسه لبنان أمام كل الدول التي تغرق أسواقه بسلع ينتجها هو أصلاً. فعلى سبيل المثال، اعترض بعض سفراء الدول الأجنبية مثل فرنسا والدانمارك وغيرهما على وضع رسم جمركي حمائي على بعض السلع مثل واردات الدفاتر، رغم أن جهاز حماية الإنتاج الوطني أقرّ بوجود إغراق. وأخيراً، رفض الملحق التجاري السعودي إخضاع بعض الواردات أصناف السلع الواردة إلى لبنان لإجازة استيراد، رغم أن السعودية تدعم هذه المنتجات بأسعار المحروقات وبتسهيلات لا تحصى.
إذاً، كيف يمكن قراءة وضعنا الحالي؟ يجيب الجميل أنه «يجب علينا مراجعة كل تجاربنا السابقة مع البلدان التي وقّعت معها اتفاقيات، وسيظهر بوضوح أن الواردات ارتفعت أكثر بكثير مما ارتفعت الصادرات. تجاربنا السابقة ليست مشجعة، وعندما طالبنا بالتصحيح أتتنا الإجابات المحلية لتشير إلى أن المنظمة تمنع الحماية، إلا أنه تبيّن أن قوانين وشروط الانضمام تتيح هذا الأمر. يجب أن نعمل على تقليص العجز التجاري غير المحمول بالنسبة إلى حجم اقتصاد لبنان. لدينا بطالة مرتفعة، علماً بأن كل خفض بقيمة 50 ألف دولار في الواردات يخلق فرصة عمل، أي أن خفضاً بقيمة مليار دولار يخلق 20 ألف فرصة عمل. نحن نتكل على الموقف الرسمي لدعم الإنتاج المحلي».
وليس بعيداً عن هذا كلّه، يرى الوزير السابق شربل نحاس أن انضمام لبنان إلى منظمة التجارة العالمية سيؤدي حكماً إلى خفض الرسوم الجمركية إلى مستويات أقل مما هي عليه الآن، لكن المشكلة أن القطاعات اللبنانية تدمرت بفضل الخفوضات السابقة. «لم يعد لدينا ما ننتجه في لبنان لحمايته. لا يجب أن يفهم من هذا الأمر أنه يجب الانبطاح أمام منظمة التجارة العالمية، بل يجب أن يكون لدينا تصور واضح ومطالب محدّدة غير المساعدات (الشحادة) التي اعتادها اللبنانيون من أجل حماية ما تبقى».