"جاء إقرار قانون الإتجار بالبشر بمثابة رضوخ للضغوط الأميركية والدولية، فيما بقيت الضحيّة مغيّبة تماما وكأنها غير معنية باعتبارات العدالة". كان هذا التعليق الأبرز الذي نشرته جمعية "المفكرة القانونية" منذ نحو 5 سنوات، على قانون الإتجار بالبشر الصادر في 24/8/2011. حينها، رأت "المفكّرة" أن القانون صدر بمعزل عن أي إرادة سياسية في مكافحة الإستغلال، مُشيرةً الى أن القانون "لم يعتمد على آلية واضحة للتعرّف على ضحية الإتجار بالأشخاص"http://www.legal-agenda.com/article.php?id=46&folder=articles&lang=a".يُعدّ هذا المدخل ضروريا لفهم "مُقاربة" السلطة لمسألة "الدعارة" في لبنان، حيث تغيب التحقيقات الجدية لاثبات وجود جريمة الإتجار بالبشر في معظم حالات الفتيات اللواتي تجري ملاحقتهن في تهم الدعارة.
تُشير المعطيات الى أن هناك جزءا من الفتيات "المُستعبدات" في شبكة الإتجار التي أوقفتها القوى الأمنية منذ أيام، سبق أن أوقفتهن الجهات الأمنية المختصّة، وكان يُفرج عنهن لاحقا بعد إقفال التحقيق بشكله "الروتيني" الذي يُجرّم الفتاة ومُشغلها، على حدّ سواء.
خلال أربع سنوات، ومن أصل أكثر من 1600 موقوف في مكتب مكافحة الإتجار بالأشخاص وحماية الآداب العامة، 38 فقط أوقفوا بجرم الإتجار، بحسب إحصائيات قوى الأمن الداخلي من عام 2011 حتى عام 2014، فيما جرى توقيف نحو 1290 شخصا (أكثر من 70%) بجرم ممارسة الدعارة و315 موقوفا بجرم تسهيلها.
التحقيقات الأولية للضابطة العدلية تتغيّب الأسئلة عن الإتجار والاستغلال

بناء على ما جرى كشفه في شبكة الإتجار الأخيرة، فإن السعي الحالي يجب أن يتركزّ على إرساء "الإرتباط الوثيق بين الدعارة والإتجار بالبشر"، وفق ما تقوله المنسّقة الإعلامية لجمعية "كفى" مايا عمّار. تُشير الأخيرة الى أن "الرابط بين الإتجار والدعارة يهمّشه المجتمع والسلطات التي تعتمد على المقاربات الذهنية التقليدية في معالجته"، لافتةً الى "وجود المئات من الضحايا أمثال الفتيات اللواتي جرى تحريرهن، لا يزلن أسيرات من يُشغّلهن نتيجة غياب الإرادة الجدية الصارمة بتجريم الضحايا والتشدّد في انزال العقوبات بالمُسهّلين".
"ليست كل دعارة اتجار"، تقول مصادر في إحدى المنظمات الدولية المعنية، مستطردة: "إلا أن ما يحصل في لبنان وما تُثبته التقارير يكشف عن وجود الاستغلال الذي يشكل احد أبرز عناصر الاتجار". ترى هذه المصادر أن لبنان بحاجة الى إدخال مُقاربة جديدة في ما يتعلّق بالدعارة "ذلك أن الدعارة السرية التي تُرسيها الدولة مرتبطة بعنصر الجريمة"، وتلفت الى ضرورة "عدم تجريم الفتاة كي لا يجري إضعاف موقفها وجعلها أكثر عرضة للاستغلال".
تقول المحامية غيدا فرنجية، في مقالها "الاتجار بالاشخاص: اي حساسية ازاء ضحاياه؟"، أن الضحية تُعفى من عقوبة الجرائم العادية كممارسة الدعارة أو التسوّل، "التي قد تكون مرتبطة مباشرة بالإتجار"، فقط إذا ثبت أنها أرغمت على ارتكاب الجريمة. وتضيف في هذا الصدد: "بالطبع، تقديم هذا الاثبات يبقى صعبا في غياب اي إمكانية للضحية بالحصول على دفاع مناسب". تشير مصادر حقوقية في هذا الصدد الى أن "الأجهزة الأمنية ليست جميعها كفوءة وهي تساهم في كثير من الأحيان بإضعاف موقع الضحية وبالتالي إبقائها في موقع الاستغلال وذلك عبر تجريمها ووضعها بمساواة من يُشغّلها".
تقول مسؤولة قسم مكافحة استغلال النساء والإتجار بهن في "كفى" غادة جبّور أن قانون الإتجار في لبنان "وضع العبء على الضحية عندما طلب منها أن تُثبت أنها ضحية إتجار كي لا تُجرّم"، مُشيرةً الى أن "التحقيقات الأولية للضابطة العدلية تلحظ غياب أسئلة عن الإتجار والاستغلال". وتُضيف: "إن ظاهرة الاتجار كانت ظاهرة منتشرة ولافتة قبل النزوح السوري، "لكنها حاليا أصبحت علنية أكثر مع ارتفاع أعداد الشبكات التي تستغل هشاشة وضع السوريات".
تعلّق المسؤولة في قسم الاعلام في مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ليزا أبو خالد بالقول إن موقف المفوضية الأساسي من هذه القضية هو التأكيد أن هؤلاء النساء "هن ضحايا ويجب تأمين الأماكن الآمنة لهن". ماذا عن مسؤولية المفوضية؟ تجيب أبو خالد أن هناك برامج مخصصة للنساء اللواتي يتعرّضن لعنف جنسي وأسري، أمّا في ما يتعلّق بحالات استغلال الفتيات السوريات في شبكات الدعارة، فترى أبو خالد أن "هؤلاء النساء هن حتما من العائلات الأكثر حاجة وهشاشة وهن الشريحة التي تخصص لهن المفوصية قسما من الدعم المادي والنفسي". أمّا المشكلة، بحسب أبو خالد، فهي ضعف الحصول على المعلومات عن آلية استقطاب السوريات والإيقاع بهن، "بسبب التكتّم عن التبليغ في كثير من الأحيان". وتُشير في هذا الصدد الى لجوء المفوضية الى القيام بحملات توعية تنبّه من خطورة الأمر.
ماذا عن الدعارة "المنظمة"، التي ترعاها الدولة عبر استقدام ما يعرف بإجازات الفنانات؟ تتساءل عمّار، مشيرةً الى أن هؤلاء تُصادر باسبوراتهن أيضا ويجري استغلالهن، من يحمي لهن حقوقهن؟ تعلّق جبور في هذا الصدد أن "هناك موافقة ضمنية على قدومهن من أجل العمل "وهو نوع من التنظيم لظاهرة الدعارة التي تترافق مع الإتجار". وإزاء هذا الواقع، يخلص دراسة "الدعارة جريمة اخلاقية أم جريمة استغلال؟" المنشورة في عام 2013، الى ان "السلطات العامة تتردد في كيفية التعامل مع الدعارة: فلا هي ترغب بمنعها ولا هي قابلة للإعتراف بمشروعيتها، ما يجعلها ميالة الى ضبطها على نحو يتيح لها التدخل كلما استشعرت حاجة الى ذلك". الأمر الذي يؤدي الى "تضخم الجريمة وعدم إمكانية مكافحتها"، على حدّ تعبير المصادر الحقوقية نفسها.
في اطار التحرّكات، دعا التجمع النسائي الديمقراطي اللبناني الى لقاء تشاوري، ظهر غد الثلاثاء، للنقاش والتفكير في الخطوات التي يمكن اتخاذها من جانب المنظمات الحقوقية والنسوية، وذلك تعبيرا عن التضامن مع الضحايا ورفضا لكل أشكال العنف والاستغلال وتأكيدا على عدم التهاون في هذا الملف .