على الغلاف | عكار | لم يبدل أهالي الوادي عاداتهم. لا تزال عبارة «نحن الضيوف وأنتم أصحاب الدار» محببة لديهم، لكن صعوبة الوفاء بمضمونها أفقدها مدلولها، بعد أن تجاوزت أرقام «الضيوف» عدد السكان الأصليين. صار العدد ستة آلاف عائلة سورية في ضيافة عدد مماثل من أهالي الوادي، أو أقل بعض الشيء. لا حاجة للتفكير كثيراً بالتداعيات في منطقة خسرت موردها الأساسي بعد أن تقطعت بها السبل الحدودية. لم ينقطع الرزق فحسب، بل طارت الخدمات والسلع الرخيصة التي كانت تؤمّن عبر الجارة بطرق متعددة، وحلت مكانها فوضى لا مثيل لها.

هكذا يغوص رئيس بلدية العماير ورجم عيسى بسام خليفة، في سرد تفاصيل واقع هش في قريتين جُمعتا ضمن نطاق بلدي واحد، بحكم عدد ناخبيهما القليل: العماير 280 ناخباً، ورجم عيسى 500 ناخب، واضطرتهما الأحداث السورية إلى استيعاب سبعمئة وأربعين عائلة نازحة.
أما بعد، يقول رئيس البلدية المستحدثة منذ ثلاث سنوات، فتفتقد العماير ورجم عيسى كافة أشكال البنى التحتية. ومع ذلك استطاعت البلدية التكيف مع موجات النزوح الكثيفة. فنظمت توزيعهم على الأسر، حيث استقبل الأهالي النازحين بداية من دون مقابل، وتقاسموا معهم المنازل، أو فتحوا لهم المحال والمستودعات. ومع الوقت راحت لجان الإغاثة تدفع بدلات إيجار، وتقدم معونات عينية أولاً، ثم معونات نقدية على شكل بونات بقيمة أربعين ألف ليرة عن كل نازح.
لكن مع الوقت، تفاقمت المشاكل على مستويات ثلاثة. في المستوى الأول والأخطر، فرغت جيوب المستضيفين بعد أن انقطعت كل أشكال التبادل عبر الحدود. وبالمناسبة، ولدى سؤال رئيس البلدية عن المسافة التي تفصل العماير عن الحدود، أجاب: «ولا متر»، ثم وقف ليشير إلى تلة قبالة منزله، يمكن إحصاء تفاصيل البيوت فيها بدقة متناهية، وقال إن هذه البيوت تعود إلى لبنانيين وسوريين يقيمون في بلدة العويشات السورية. قبل الأحداث كان الناس على جانبي النهر الكبير يتبادلون الزيارات، وبالتالي كانت التجارة البينية تشغّل معظم السكان. رفع ساتر ترابي بجانب النهر، فانقطعت السبل، وبات أكثر من تسعين في المئة من الأهالي من دون دخل.
يتمثل المستوى الثاني بمزاحمة العمال السوريين على الحيز الضيق من الأشغال الباقية. ومعلوم أنه من بين النازحين، هناك العامل في كل مجالات قطاع البناء، والمزارع، وحتى السائق والبائع. وإذا ما أخذنا في الاعتبار ما يتلقى النازحون من مساعدات، وإن كانت قليلة، ازدادت قدرة العامل السوري التنافسية وبقي اللبناني بلا عمل.
ويتمثل المستوى الثالث بالبنية التحتية الهزيلة، وقد تفاقم الضغط عليها، وأصبحت تنذر بمآسٍ ومشاكل بيئية واجتماعية. ففي العماير ورجم عيسى، لا وجود لشبكة مياه شفة، ما خلا تلك الشبكة التي مُدَّت عام 1990، ولم تجر فيها المياه لتبلغ المنازل؛ إذ تبين أنها غير صالحة بعد تجريبها بواسطة الضغط. أما محولات الطاقة الكهربائية، فغالباً ما تنفجر بسبب الحمولة الزائدة.
والمشكلة الأخطر تكمن في الصرف الصحي، حيث تتسرب محتويات الجور الصحية من منزل إلى آخر. كذلك حفر البعض آباراً ولم تخرج منها المياه فحوّلوها إلى جور صحية، ما ينذر بتلوث مياه باقي الآبار. وبسبب منع وزارة البيئة استخدام مجرى النهر للصرف الصحي، يترك عدد كبير من الأهالي القساطل الصحية على الطريق العام، أو إلى ساقية، يقول رئيس البلدية إنها تمر تحت شبابيك مدرسة رجم عيسى الرسمية. والأسوأ من ذلك، يضيف خليفة، أن الطريق التي تصل إلى المركز التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية هو عبارة عن مستنقع دائم «بدك تلبس جزمة حتى توصل عليه».