ستُروى حكايات كثيرة عمّا حدث في قلب المحيط الهندي قبالة الشواطئ الإندونيسية، هناك على بعد آلاف الكيلومترات حيث غرقت عبّارة تقلّ نحو 120 شخصاً كانوا يحاولون الوصول إلى أوستراليا بهجرة غير شرعية. ستروى قصص كثيرة عن هؤلاء الهاربين من عكّار حيث أعلى نسبة فقراء في لبنان. ستُروى الروايات المثيرة عن قوة العصابات التي تستطيع أن تخترق كل الحواجز لإيصال عائلات من قبعيت ووادي مشمش إلى حتفهم على تخوم الأمل بالعيش في المقلب الآخر من الأرض، هناك حيث المجهول لهم تماماً كآلاف العاملات والعمّال الذين يفدون إلى لبنان ليتحوّل حلمهم إلى كابوس.
نعم، ستُطرح أسئلة كثيرة عمّا حصل لكي يقع كل هذا الموت. لكنّ سؤالاً واحداً لا مناص منه الآن: لماذا مات هؤلاء؟ من المسؤول حقّاً عن موتهم؟
أُخضع اللبنانيون لسحر الهجرة. إنها انتشارهم في العالم، وليست عارهم ونزفهم المستدام. لم يسمع اللبنانيون إلا بلبنانيين غزوا العالم ونالوا الثروة والشهرة والنفوذ. حتى يوم أمس لم يكونوا قد سمعوا بهذا النوع من الهجرة المميتة. ربما سمعوا عنها تحصل من أفريقيا، تلك البلاد التي يظنون أنهم يستطيعون أن يمارسوا عنصرية ضدها، فقط لأنهم يظنون أنهم أرقى منها وأفضل حالاً. الآن سمعوا بها هنا، عندهم، وسيضطرون إلى حمل الكثير من الجثث لتشييعها في عرض البحر. تماماً كما حملت «التايتانيك» جثث الهاربين للبحث عن لقمة عيشهم منذ زمن بعيد.
هؤلاء الذين هربوا في «عبّارة إندونيسيا»، لم نعرف إلى الآن من قصصهم إلا فقرهم. وهذا يكفي لنعرف من هم هؤلاء. لمن لا يعرف عنهم، هؤلاء هم عائلات بكاملها هربت من المزاحمة على الفقر في قرى عكّار. ربما كانوا يعرفون أنهم لن يصلوا إلى تحقيق أحلامهم. وللأمر أسباب، يقول الوزير السابق شربل نحاس، أولها «القناعة الراسخة بأن لا مستقبل لهم في بلادهم». تخيلوا فقرهم يكبر، ففروا في عبارة غير شرعية. وهم يعرفون مسبقاً أنهم إذا ما ماتوا، «يبقى موتهم أفضل من البقاء». إلى تلك النقطة «من اليأس وصلوا»، أو بمعنى أصح، إلى هذا القدر من اليأس أوصل هذا النظام الناس.
هكذا، صارت المعادلة. وجد الفقر، فكان لا بد من الهجرة الشرعية للوصول إلى الحلم. وهذا مؤشر خطير. أما الأخطر من كل هذا، مع بشاعة الموت، فهي تلك اللعبة «التي دخلنا بها»: في غياب الدولة الراعية تنشط عصابات «المهربجية». تلك العصابات التي تولد من «يأس الفقراء الذين ارتضوا بسبب أوضاعهم أن يتحولوا سلعاً تصدّر أو تستورد». لا فرق. هذه هي القصة إذاً. قصة «سوق سوداء» تبيع أحلاماً للفقراء. فماذا يعرف هؤلاء الذين بالكاد يحفظون أزقة قبعيت، عن إندونيسيا كي يذهبوا إليها؟ لا شيء سوى أن «المهرّب قال لهم عن بلاد الأحلام، فمضوا». وهي تشبه شبكات تحدث بالاتجاه المعاكس «شبكات تهريب الفتيات من سريلانكا وإثيوبيا». فتيات من «قبعيت» أخرى مدقعة في فقرها هربت إلى مكان لا تعرفه، وربما لم تسمع عنه. فما الذي تعرفه هذه الآتية بعبّارة من جبال إثيوبيا؟ هي تعرف... بقدر ما يعرفه هؤلاء الهاربون من جرود القيطع في عكار عن أوستراليا.
عاشت بلدة قبعيت وسواها في جرد عكار المأساة بكامل أوصافها. مشقة الطريق إلى تلك البلدة المعلقة بين الأرض والسماء كافية لفهم الدافع الذي يجعل عائلات هذه القرى تهرب من جحيمها، لطالما الناس هناك صرخوا من وجعهم ولم يهتم أحد. مشهد فظيع كان يوم أمس. يقولون إنّ أسرة واحدة كان نصيبها تسعة موتى، وأسرة ثانية مات منها خمسة، وخمسة آخرون ماتوا أيضاً.
وجهة الجميع في قبعيت كانت منزل حسين خضر الذي لم يبق غيره من أسرته حياً. جموع الناس المتوجهة إلى حارة الكفرون غرب البلدة تدل على منزل كان آهلاً بعشرة أشخاص منذ أسابيع قليلة، مات تسعة منهم، ورب الأسرة يرقد الآن في أحد مستشفيات جاكرتا، بعد أن نجا من الموت «العابر» على عبّارة. يقول شقيق حسين، ظهير خضر، أن الرجل باع ما «فوقه وتحته» ليهرب بأسرته إلى ما افترضه شاطئ الأمان، حيث يوجد الوعد بالعلم والعمل والصحة والمستقبل، فإذا به يرقد وحيداً في بلاد الغربة، ولا يعلم إذا كان موج البحر قد لفظ جثث زوجته وأطفاله الثمانية إلى الشاطئ.
يستغرب ظهير السؤال عن السبب الذي دفع شقيقه إلى الهجرة بهذه الطريقة، ويكتفي بالقول: «تصور أننا في بلاد الثلج نشتري صهريج المياه للشفة بعشرين ألف ليرة، فلا شبكة مياه لغاية الآن في حارتنا الكفرون، تصور أن رسم التسجيل في المدرسة الرسمية أصبح هذه السنة 250 ألف ليرة، فكيف لأخي أن يعلم أبناءه الثمانية، وهو بالكاد يملك القدرة على إطعامهم». يضيف: «أنا بدوري كنت سأسافر أيضاً، ولم يمنعني عن ذلك سوى أنني مضطر إلى البقاء بجانب ابني المريض»، يتابع: «لا تظن أن هذه الكارثة ستمنع الناس من المخاطرة».
أكثر من مئة شخص من البلدة هاجروا إلى أوستراليا وإلى جزيرة نارو القريبة منها وإلى بابوا غينيا حيث قد تقتلهم العصابات إذا لم يموتوا من قساوة الطقس، يقول ظهير. ويشير إلى عصابة يديرها المدعو «أبو صالح»، وتعاونه «شلة» في طرابلس، ويبدو بتقديره أن للعصابة نفوذاً وتأثيراً في الأوساط الأمنية الإندونيسية، حيث يجري التواطؤ على تسهيل السفر غير الشرعي، فيصبح المهاجر عالقاً بين براثن العصابة وبعض رجال الأمن الإندونيسيين.
ما أشار إليه ظهير، تحدث عنه بالتفصيل أحد أبناء قبعيت، بعد أن نجا بالصدفة من رحلة الموت. فالرجل كان قد سافر مع المجموعة الغارقة في أواخر آب الماضي عبر مطار رفيق الحريري الدولي، لكنه هناك أحس بأنّ «أبو صالح، وهو عراقي، غير صادق». ويذكر أنه قبل السفر دفع للمدعو ع. ط. مبلغ ألفي دولار في طرابلس، ولدى وصوله إلى جاكرتا دفع لأبو صالح مبلغ 14 ألف دولار، «ومع ذلك، مكثت هناك شهراً وعشرة أيام»، وظل أبو صالح يتحجج «ساعة الباخرة انكمشت، وساعة البحر هائج»، علماً بأنه يترتب على كل يوم تأخير دفع غرامة (رشوة) قدرها 20 دولاراً عن كل فرد. يقول إن «حسين خضر دفع 16 ألف دولار، ولما أخبرته بنيتي بالعودة إلى لبنان، لأنني أدركت أن أمراً خطيراً يدبر، قال لي حسين: لم يعد أمامي ما أخسره، بعد أن بعت كل ما أملك في لبنان، ودفعته ثمن الرحلة».
يشرح الحاج عبد الرزاق خضر، وهو ابن عم حسين خضر، إلى أن ثلاثة أرباع قبعيت مهاجرة، ورغم ارتفاع نسبة المتعلمين في البلدة، وكثرة المهندسين وأصحاب الإجازات الجامعية فيها، لكن أغلب الناس هنا يشتغلون بالفاعل، ومع ذلك «لو كان الإنسان قادراً على أن يؤمن معيشته كل يوم بيومه لما سافر»، ويضيف أن حسين كان قد أخبرني أنه لم يكن يرغب بالسفر لولا أن بناته لديهن إعاقات في نظرهن وأنه «لو باع قبعيت كلها لما استطاع أن يؤمن لهن تكاليف العلاج»، فماذا عن التعليم، والمستقبل والمصير؟