باطن الارض في بلدنا غني جداً. السبب غناه بالمياه، هذا ما يُردَّد على آذاننا منذ نعومة أظفارنا. تفعل هذه المياه فعلها الطبيعي دون اي تدخل خارجي، فتصنع أكثر التحف روعةً وجمالاً. في لبنان اليوم 700 تحفة طبيعية مهددة بالتلوّث. مغارة جعيتا واحدة منها، وهي الأكبر مساحةً بكل تأكيد، لكنها ليست الأجمل. ما يميزها أنها الوحيدة تقريباً التي تضم هذا التنوع الكبير من الصواعد والهوابط والستائر، لكن رغم هذا الجمال، هي أيضاً ملوثة.
لا تنقص المغاور الكثيرة في لبنان إلا رعاية الدولة، وقليل من الوعي الذاتي والاجتماعي للحفاظ عليها. يهدد المغاورَ اللبنانية خطر شديد ناجم عما يفتعله الإنسان على السطح. ما يحصل على سطح الارض يدمر باطنها، وبالتالي يدمر الثروة الكبيرة التي يكتنزها.
غالباً، لا نعرف الكثير عن هذه الثروة. لا تُدرس في المدارس ولا تُعطى حقها في الإعلام أو من قبل الدولة. فغياب الوعي لأهمية المغاور يجسد الخطر الاكبر على المغاور، ويدفع الى حرمان اكثرية الناس الاستفادة منها. تقول غادة سالم، العضوة في الجمعية اللبنانية لدراسة المغاور (Ales)، إن معظم المغاور التي يجري اكتشافها في لبنان لا يُصرَّح عنها إلا للجهات المسؤولة والمعنية في الدولة اللبنانية. والهدف الوحيد وراء هذا التكتم هو حماية هذه المغاور على نحو أساسي.

مخاطر التلوث

تشرح سالم أن المغاور تتمتع بطبيعة خاصة بها، حيث تتولى الطبيعة وحدها عملية التكوين دون مساعدة خارجية، بل إن المساعدة الخارجية غير المدروسة يمكن أن تتسبب بأضرار جسيمة، لذلك السرية مطلوبة. فإن كُشفت هذه الأجزاء من الأرض الباطنية «تصبح عرضة للتلوث والتشويه لأن الشعب والمجتمع يفتقران إلى الوعي اللازم للاهتمام بها». وتشير الى أن التكتم يحمي هذه الظواهر الطبيعية الخلابة، إلا أنه يجعلها غير موجودة للأكثرية، فالمجتمع لا يعرف عنها شيئاً طالما هي سرية. 700 مغارة على الأقل جرى اكتشافها في لبنان حتى اليوم، وقلة قليلة تعرف وجودها، وهي تقتصر على الجمعيات والوزارات المعنية فقط!
تتكرر كلمة «تلوث» أكثر من عشرين مرة على لسان سالم، وهي تتحدث عن المغاور اللبنانية، هي التي دخلت إلى معظمها بسبب عضويتها في الجمعية من جهة، ولكون دخول المغاور واكتشافها الهواية الأقرب إلى قلبها. بحسرة شديدة تشرح أن كل ما يحصل على سطح الأرض يؤثر تأثيراً شديداً على باطنها. تقول: «المياه هي المهندس في المغارة، فما برأيكم سيُصيب هذا المهندس وعمله إن كان ملوثاً ومحملاً بكل النفايات والمجارير التي نلاحظها على سطح الأرض». فعلاً، كل ما نراه على سطح الأرض يتغلغل إلى الأعماق، والتلوث الذي يصيب بحرنا وأنهارنا وشواطئنا ليس إلا عينة صغيرة مما يصيب الجوف، فالتلوّث هو العدو الأساسي للمغاور ايضا. المشاكل البيئية التي نواجهها على السطح، هي نفسها التي تفتك بالباطن، الكسارات والمقالع والمجازر المرتكبة بحق الأشجار كاقتلاعها وحرقها، واستعمال المبيدات الزراعية والسموم، كلها تساعد على تغيير مجرى المياه، كلها تلعب بالهندسة الداخلية للمغارة. إلى جانب العوامل الخارجية، يسهم الانسان في هذا التلوث بطرق عديدة، منها اللاإرادية وأخرى عن عمد. كل زائر يدخل إلى المغارة دون مرافقة خبير أو مختص يمثل تهديداً مباشراً لمواردها البيولوجية المحدودة. تكديس التربة والوحول، انزلاق الصخور السطحية، لمس المواد في طور التكون، كلها تؤثر سلبياً دون علم الزائر، وهذه تفاصيل يمكن للخبير المرافق أن يشرحها خلال الجولة في حال زيارة مغارة ما. أما التأثير المعتمد الواضح من خلال ترك بقايا طعام أو أعقاب سجائر ومحارم، والكتابة على الجدران لتخليد الذكرى أن «فلان مرّ من هنا»، فهو يعكس ثقافة عامة تربت على عدم احترام الأماكن الطبيعية.
يحزن الكثير من المتخصصين في المجال عند اكتشاف مغارة جديدة استعملها صاحب العقار كجورة صحية لكونها قريبة من بيته، فالتلوث لا يهدد المنطقة التي يسكنها هذا فحسب، بل يمتد أيضاً ليهدد مساحة كبيرة من جوف الارض المتصل بعضه ببعض.

رحلة إلى الجوف

لكن التهديد الكبير المحيط بالعالم الجوفي لا يمنع الجمعية اللبنانية لدراسة المغاور من تنظيم رحلات سياحية لمحبي خوض هذه المغامرة. تشرح سالم أن هناك إجراءات وقائية كثيرة يجب أن تتوافر قبل الدخول إلى المغارة، ولعل أبرزها يكون بوجود مرشد أو دليل، يكون من أعضاء الجمعية نفسها، لأسباب تتعلق بالسلامة العامة للزائر، كما بسلامة المغارة نفسها. خلال هذه الرحلات، وقبل الدخول إلى المغارة، تُوزَّع عُدة على كل شخص، مؤلفة من خوذة للرأس وبطارية يد تُستخدم للإضاءة في المناطق المظلمة في المغارة، وبذلة للحماية من الوحل والكدمات، التي يمكن أن يُصاب بها الزائر. مختلف الأعمار يمكن أن تدخل إلى المغارة، في غالب الأحيان يرافق الأطفال ذووهم لأن الأرض وعرة، كما أن الهواة لا يمكن أن يقضوا فترة طويلة في الداخل، فنسبة الرطوبة تصل إلى 100% مما يمكن أن يترافق مع ضيق تنفس أو عوامل أخرى مشابهة. أما أعضاء الجمعية والمتخصصون في هذه المغامرات الباطنية، فيأخذون ترتيبات أخرى غير تلك التي يتخذها السيّاح. هؤلاء يدخلون مغاور غير مخصصة للسياحة مما يجعل المغامرة أصعب وأكثر خطورة، فيتحتّم عليهم إضافة إلى ما يرتديه السياح، انتقاء حذاء متين يساعدهم على التسلق ومواجهة الانزلاق، ثيابهم تكون أكثر تجهيزاً فتحميهم من البرد في الداخل، وخوذة مزودة بضوء مما يجعل أيديهم خالية لتساعدهم على الحفاظ على التوازن المطلوب. كذلك يحملون على ظهورهم «شنطاً» تحتوي معدات خاصة بالتسلق او الهبوط بحسب الحاجة.