«يحصل الآن» على شاشات التلفزيون اللبنانية، و«الآن» هو الزمن الذي أعادنا الى عهد قرون ولّت، الى عهد سبقت فيه المشافهة الإعلام، فكانت وسيلة إطلاق الشائعات ونقل الخبر. اليوم يطلق منجّمو الإعلام «وشوشات» يحتكرون مصدرها ونشرها عبر وسائل الإعلام. التساؤلات كثيرة: كيف كان وقع الشائعة خلال عصر بداية الإعلام الجماهيري، أي ما قبل الإعلام الاجتماعي؟ كيف استعملت خلال الحروب؟ ما كانت أدواتها؟ من كان صنّاعها؟ إبان الحرب الأهلية، تعرض إلياس سركيس، رئيس الجمهورية اللبنانية الراحل، لأسوأ حملة شائعات، حيث وُصف بالضعيف والخائن، وكثرت المطالبة برحيله. يصف كريم بقرادوني، محامٍ ووزير سابق ورئيس حزب الكتائب الأسبق، سركيس في كتابه «السلام المفقود» بالرجل الصامت. ويقول بقرادوني «صورته هي عكس تماماً ما رسخ في أذهان الناس، فهو كان أحد أفضل رجال الدولة الذين تحمّلوا الضغوطات».

والشائعات طالت بقرادوني أيضاً. قيل عنه إنه يبدل مواقفه ومواقعه للوصول الى مبتغاه. يعلق على هذه الشائعة قائلاً «حدث هذا خلال الحرب، وتحديداً من عام 1982 حتى عام 1985. دون أدنى شكّ تأثرت، لكنني لم أردّ يوماً، واكتفيت بالتجاهل. أعتقد أن الأسباب كثيرة ومصدرها قد يكون أكثرهم قربةً أو من المنافسين السياسيين. هذا تنافس غير مشروع برأيي».

الطابور الخامس

«الفاشية كذبة»، عنوان خطاب ألقاه الكاتب الأميركي ارنست همينغواي في عام 1937، خلال مؤتمر الكتّاب الأميركيين. كان همينغواي قد عاد للتوّ من أوروبا، حيث وثّق الحرب الأهلية الاسبانية بصفته مراسلاً حربيّاً، فكتب مسرحية بعنوان «الطابور الخامس»، تروي قصّة صحافية تقع في غرام جاسوس متخفٍ في شخصية مراسل حربي (فيليب رولينغز) هدفه الإيقاع بأعضاء الطابور من مؤيدي الثورة في مدريد. عمد معسكر الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية إلى المبالغة في وصف «الطابور الخامس» وقدرته على بثّ شائعات انهزامية. وأضحى للمصطلح دلالة سلبية، أعضاؤه من مروّجي الشائعات ومنظّمي الحروب النفسية التي انتشرت بكثرة خلال الحرب الباردة أيضاً.
شكّلت الحكومة البريطانية، لدى بداية الحرب العالمية الثانية، خليّة من الصحافيين والمراسلين الحربيّين، هدفهم صناعة شائعات وترويجها حول العالم: أخبار لا أساس لها من الصحة، تصبح «حقيقة» بمهارات صحافية بارزة، لرفع معنويات الجنود، أو لخداع العدو (ألمانيا النازية وحلفاؤها) وهزمه نفسياً قبيل بدء الحرب. فجاءت حصيلة المشروع: نحو 8000 قصّة كاذبة حقّقها مبدعو التواصل الإعلامي والحرب النفسية. هذه الحالة لم تكن حكراً على بريطانيا، بل على الدول المتحاربة كافة، وهي اليوم مواد تدريس أكاديمية.

يصعب على المتلقّين التفريق بين الإشاعة والحقيقة لأنّها تنتشر في بيئة خصبة


في هذه المسألة، هل هنالك فرق بين أخلاقيات عصر الحروب في مقابل السلم؟ هل يمكن لجهة رسمية أن تخلق الشائعات؟ كيف يمكن التمييز بين الحقيقة والشائعة؟ ألا ينطوي نشر الشائعات على حالة خداع للشعب وخبث ممنهج؟
«خلال متتاليات الحرب الأهلية اللبنانية كثرت الشائعات عن أطراف مختلفة ترغب في السيطرة على لبنان بغية رمينا خارجه. هذه الأطراف وصفت لنا بأنها وحشية، لا علاقة لها بالدراسة أو بالثقافة». يروي أسعد الشفتري، مسؤول جهاز الأمن السابق في القوات اللبنانية، وهو اليوم ناشط اجتماعي، يقول «أضف الى ما أسلفته، الشائعات العجائبية الدينية، نوعية الأسلحة المستعملة في الحرب والقدرة التي تملكها. هذه الأخبار، رغم عدم صدقيتها، جاءت لتذكي قراراً ضمنياً كنت قد اتخذته منذ عام 1973، أي قبيل الحرب بقليل: القتال والالتحاق بحزب يمثلني».

الثورة التي أنتجتها كذبة

تشير العديد من الحوادث التاريخية إلى أنّ للشائعات دوراً فعّالًا في التعبئة الشعبية، وقد ينتج منها ثورات أو حروب. في عام 2009، نشر دان بيلفسكي، وهو مراسل نيويورك تايمز في باريس حالياً، مقالاً حمل عنوان «الاحتفال بثورة أسّست لجذورها شائعة «Celebrating Revolution With Roots in a Rumor. «هي الثورة التي أنتجتها كذبة»، كتب بيلفسكي، وهي الثورة المخملية التي ألهبتها مظاهرات طلابية غاضبة إثر شائعة مقتل مارتن سميد، الطالب الجامعي ابن التسعة عشر ربيعاً، على أيدي رجال الشرطة. مشاعر الغضب عمّت الشارع التشيكي لينضم الى المتظاهرين مجموعة من المثقفين والفنانين. وينتهي العصيان المدني بسقوط النظام الشيوعي الحاكم، وبانتخاب أحد مهندسي الثورة وفيلسوفها الأديب فاتسلاف هافل رئيساً للبلاد، وخطب يومها في جماهير الثوار قائلًا «وجب نصر الحقيقة والحبّ على الكذب والكراهية».
حتّى يومنا، تقارع قوّة الوشوشات الأخبار الصحيحة. «خلال الحرب الأهلية كانت إحدى مهامنا خلق الشائعات عبر وسائلنا الإعلامية، أو بواسطة مندسين لنا في أحزاب وميليشيات الخصم»، يروي الشفتري، ويقول «رافقتنا أيضاً شائعات عند خروجنا من بيروت وتوجهنا الى مدينة زحلة، حيث شعرنا برفض لوجودنا. قررت وزوجتي فبركة شائعة قرار رحيلنا عن المدينة نحو البقاع الغربي، ونشرتها زوجتي بين صديقاتها. وكانت المفاجأة بعد أقلّ من 24 ساعة عند مطالبة الأهالي لنا بالمكوث وعدم ترك المدينة».
وفق الشفتري كان هنالك نوع من تشويش Intoxication من خلال الإعلام، أما المصدر فهو سياسي ــ مخابراتي للإشاعة، وقد يكون شعبيّاً بامتياز. غير أن «جهل الثانية يساوي دهاء الأولى من حيث الخطورة»، يشرح الشفتري.

أطلق شائعة لا رصاصة

يقتبس بقرادوني قولًا للأديب سعيد تقي الدين جاء فيه «لو أردت اغتيال عدو لا تطلق عليه رصاصة... بل شائعة».
قد يكون للشائعة بعض العناصر الصحيحة، فتصبح إثرها حالة يبنى عليها الكثير من المعطيات، خصوصاً خلال العمل الصحافي ــ الميداني. مثال على ذلك قضيّة ووترغيت الشهيرة، التي بدأت كفرضية فساد كان المخبر السري Deep Throat هو مصدر تسريبات الأسرار، لتنتهي بإطاحة أعلى الهرم، رئيس الدولة ريتشارد نيكسون.
تقول ليلى شمس الدين، باحثة اجتماعية، وكاتبة وإعلامية، «بشكل عام يصعب على المتلقين التفريق بين الإشاعة والحقيقة، لأنّها تنتشر في بيئة خصبة، لا سيّما في أوقات الأزمات، أو الحروب، أو القلاقل، أو عدم الاستقرار وانعدام الثقة. وتزداد انتشاراً أيضاً في فترة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السيّئة. وبشكل عام يصعب التحقّق من صحّتها أو كذبها، لغموضها ونقص معلوماتها، ما يُسهّل الاقتناع بمضمونها». تشرح شمس الدين أن «خطورة الشائعات تكمن بفعل تأثيراتها النفسية المختلفة، وبالتالي تعبّر عن أماني مروّجيها لتحويلها إلى حقائق في وجدان من تُصيبهم الشائعة».
يرى فؤاد الديراني، ناشط مدني في جمعية محاربون من أجل السلام، أن الشائعة هي إحدى وسائل القتال. هي سلاح هدفه خلق واقع مختلف على الأرض. يقول «لدى انسحاب الجيش الاسرائيلي من منطقة صيدا، انتشرت شائعة أن المسلمين يرغبون في قتل المسيحيين. كان أثرها مخيفاً إلى درجة جعل العديد من المسيحيّين يتركون بيوتهم خلال ساعات معدودة. أعتقد أن خطورة الشائعة لا تتعلق بصدقيتها أحياناً، بل بقدرتها السلبية وسطوتها على النفوس. وهي توجه تحديداً نحو مجموعات تتأثر بها. أذكر في تلك الفترة أننا حاولنا جاهدين، مع القيمين على المنطقة آنذاك ومنهم المطران الراحل سليم غزال، التصدي لهذه الشائعة. للأسف، لم نفلح».

بهاليومين

«أبق فمك مغلقاً»، كتبت على ملصق صمّمته الفنانة الروسية نينا فاتولينا في عام 1941، بناءً على طلب من جوزيف ستالين. وطبع على الملصق أيضاً شعر للأديب صموئيل مارشاك يقول: «أبق عينيك مفتوحتين/ للجدران آذان هذه الأيام. القال والقيل كما الثرثرة:/خيانة». جسّد هذا الملصق صورة حقيقية لامرأة عاملة (جارة الفنانة فاتولينا، كان ولدها يحارب على إحدى جبهات القتال). وضعت السيدة أصبع السبابة على شفتيها، كإشارة إلى ضرورة الصمت. لا يزال هذا الملصق، إضافة الى ملصق بريطاني آخر كتب عليه «الإسراف في الحديث قد يودي بحياة الكثيرين»، من أهم الملصقات المضادة للشائعات.
في لبنان حصدت أغنية زياد الرحباني «بهاليومين» شعبية واسعة، بل هي من أكثر المدلولات الشعبية على قوّة الشائعة خلال الحرب. تقول «بدو ينقطع البنزين بهاليومين/ مش راح ينقطعو الإجرين. يمكن راح تنقطع المي بهاليومين/ منرجع منعبّي من العين. بدو ينقطع البراد بهاليومين/منصقع بين النهرين/ راح ينقطع الأمل الباقي بهاليومين/مننطر لسنة الألفين. شي عجيب كيف ماشي. مخشخش من دون خشخاشة... والفيلم مكفى وفاهمينو، شايفينو من دون شاشة...».