قديماً، أحيط المعلم بهالة من القداسة، وبات أيقونة لا يستطيع أحد المساس بها. يومها، قالوا له إنه "شمعة تذوب لتنير دروب الآخرين"، وراهناً، حدث انقلاب كبير في صورة المهنة، فلم يعد لروح التدريس مكان، إذ اختُزلت حكاية المعلم بالراتب، وازدحمت في هاتفه رسائل التهديد والتأنيب، وغدا التعليم لعنةً تفرُّ منها الأجيال بدليل التراجع الملحوظ في الإقبال على كليات التربية في الجامعات حيث المعركة الأولى في صناعة معلم جيّد.قالوا له إنه يؤدي رسالة، وعليه أن يضحي لنشر رسالته من دون أن يتوقع مردوداً، فمن جهة يجري تمجيده، ومن جهة لا يكون هناك أي تقدير مالي لعمله. عادة ما تكون الرسالة مقدّسة أو شبه مقدّسة، وتتضمن معنى هداية الآخرين! لكنّ التعليم ليس كذلك، والمعلم ليس كذلك، كما يقول الخبير النقابي غسان صليبي، لكونه "لا يملك الحقيقة المطلقة، إنما ينبغي أن يتمتع بحسّ المبادرة ويطرح الأسئلة حول المعارف، ويحرّك عقل التلامذة الذين يشكّكون فيه، ويفترض في هذه الحالة أن يبقى شمعاً ولا يذوب". يعرب صليبي عن اعتقاده بأن "صفة الرسول مستوحاة من الإرساليات الدينية، وتنطوي على شيء من القمع وتبرير العمل "ببلاش"، والسماح للمعلّم أن يلعب دور السلطة مع تلامذته، في حين أنه يجب أن يكون السؤال المُصْلَت على عنق السلطة، أي سلطة، بما فيها سلطة المعرفة المسماة زوراً حقيقة".

تمهين التعليم
قالوا للمعلم أنت تمارس "مهنة كلّ المهن" من دون توفير أدنى شروط تمهين التعليم، فهل المعلم في لبنان هو إنسان حرّ ومستقلّ فعلاً، أي أنه يتخذ قراراته بنفسه، من دون ضغوط، في مجال مادة التعلّم وكيفية التدريس والتقييم والترسيب والتنجيح؟ وهل يخضع لمعايير محدّدة للالتحاق بعمله؟ وهل هو مشروع غير منته، أي أنه لا يكتفي بما درسه في الجامعة ويثقف نفسه باستمرار ويبتكر أساليب جديدة تقنع طلابه؟ وهل ينال تدريباً مهنياً كافياً ومستداماً أي قبل التخرّج وممارسة العمل وفي أثنائه؟ وهل يتعرّض لمساءلة مهنية صارمة تتعلق بجودة العمل وطرق تقديم الخدمة؟ وهل الكفاءة المهنية شرط للترقي وتولي مهمات تربوية؟ وهل ينتمي المعلم إلى نقابة حرة مهنية، تمثل حقوقه ومصالحه وتحاكم السياسات التربوية؟ وهل هناك نظام مكافآت ورتب متدرّجة يرتقي إليها مع تقدّمه في الأداء المهني؟ وهل يعترف المجتمع بالتعليم كمهنة تقدم خدمة حيوية؟

ظروف غير مهنية
"يحاصر المعلم بكلّ الظروف غير المهنية"، هذا ما تقوله المدرسة في التعليم الأساسي الرسمي مايا شعيب، إذ تستغرب الازدواجية في المعايير كأن "يجري الدفاع عن الطبيب حين يزيد تعرفته، وأن يدعم العسكري بمخصّصات تحت شعار: دمه على كفه، في حين أنه عندما يصل الدور إلى المعلم الذي يطالب بحقه، فهو لا يسلم من الهجوم المرتد وينعت بأقذع الأوصاف، مثل أنه ترك تلامذته بلا علم، في حين أن أحداً لا يلتفت إلى أن أولاده متروكون بلا أكل وبلا استشفاء". وتشير هنا إلى أن القصائد والكلام الإنشائي لا تسدّ رمق الأمعاء الخاوية، إذ "لسنا رسلاً ولا منضوّي".
لا حلول قطاعية ناجعة ولا مناص من تحرّكات جامعة لمختلف القطاعات


وبينما كان منتظراً أن يضطلع المعلم هذا العام بمهمة استثنائية بعد 3 سنوات من الفقد التعليمي، وهي ردم الهوة الأكاديمية ومعالجة ثغر "الأونلاين" والكارثة التي ألمّت بمستوى التعليم، وجد المعلمون أنفسهم، كما تقول سلمى (مدرّسة في التعليم الرسمي وإدارية) في مواجهة الجميع: وزير التربية، الجهات الدولية المانحة وأهالي التلامذة. تقول: "نسمع باستمرار بأن المعلمين لا يشبعون، فقد أخذوا 3 رواتب ويرفضون الذهاب إلى عملهم، وليس هناك من يذكر ما هي القيمة الفعلية لهذه الرواتب الثلاثة، لا يتجاوز معدلها في التعليم الأساسي 7 ملايين ونصف مليون لمعلمي الملاك، أي نحو 90 دولاراً، فيما كل تفاصيل حياتنا مبرمجة على دولار السوق السوداء". وترى أن روابط التعليم أخطأت عندما قرّرت بدء العام الدراسي، إذ كان عليها أن تعلن الإضراب منذ اليوم الدراسي الأول، وأن لا تدخل في بازار الوزير الذي حوّل المسألة من قضية حقوق إلى موضوع أخذ التلامذة رهائن، لافتة إلى أننا "كموظفين مكشوفين نقابياً ليس لدينا ترف تجاوز العقوبات الإدارية".

إضراب خالي الوفاض
عيد المعلم ليس مناسبة للاحتفال هذا العام، فالمعلمون الرسميون أُجبروا على الخروج من إضراب خالي الوفاض بلا أي مكتسبات، باعتبار أن قيمة الرواتب الثلاثة تبخّرت مع الصعود الجنوني لسعر صرف الدولار وارتفاع سعر صيرفة، في حين أن "الحوافز" و"بدلات الإنتاجية" تحوّل أساتذة الملاك إلى مياومين وتزيد من أزمة المتعاقدين وتحرم المتقاعدين من كلّ شيء. كثير من المعلمين عادوا إلى الدروس الخصوصية، ومنهم من "امتهن" البيع "أونلاين"، ويخجل في الإفصاح عن الأمر. ثمة غصة تعتمل في صدر دانا (أستاذة في التعليم الثانوي الرسمي)، بعدما "وصلنا إلى الدرك الأسفل في الهرم الاجتماعي واصطدمنا بحائط مسدود، فكيف سندخل الصفوف وماذا سنعلّم تلامذتنا؟".

التعليم سلعة
أما المعلّمون في المدارس الخاصة فيعيشون استغلالاً من نوع آخر. يختبرون حرفياً ماذا يعني أن يكون التعليم سلعة بالنظر إلى الفوارق بين الأقساط وحقوق المعلمين، على ما تقول النقابية، ديانا أبو زينب. تضيف: "المعلمون تفانوا على مدى السنوات وانكبّوا، خلال أشهر التعليم عن بعد، خلف الشاشات، وكانوا هم المؤسسة ودمها وروحها، وهي من دونهم ليست سوى جدران وحجارة. لقد ضحّوا ويرفضون تذويب حقوقهم وامتصاص غضبهم بمطالب لا تغني من جوع". وتشير إلى أننا "نعيش مرحلة خطيرة من تصفية المجتمع بتهجير معلمين أصحاب كفاءة وضمير، ونحتاج إلى توحيد صفوف المعلمين في التعليمين الرسمي والخاص، وبين المدارس الخاصة نفسها بصرف النظر عن الفروق في الأجر بين مدرسة وأخرى".

لا حلول قطاعية
التشرذم، كما هو الحال اليوم، نتيجة تفرّد هيئات روابط التعليم بقرار تعليق الإضراب مضرّ، بحسب صليبي، بالعمل النقابي على المدى القريب والبعيد. ولا بديل عن تطبيق الديموقراطيّة، فإذا جاء القرار بالاستمرار في الإضراب، فسيكون الموقف أقوى، وإذا كان القرار بتعليقه، فستسمح الديموقراطيّة بالعودة إليه في حال لم تتحقّق المطالب. ونبّه إلى خطورة تعطيل الخدمة العامة، فالتعليم لا يختلف عن الاستشفاء والكهرباء، وتوقيفه لا يطاول مصلحة التلامذة فحسب، إنما أيضاً مصلحة التعليم الرسمي ككلّ، الذي يتقلّص لصالح المدرسة الخاصة، ولا سيما أن السلطة الحالية لا تبالي باستمراره.
ويعرب عن اعتقاده بأن لا حلول قطاعية ناجعة في ظروف أزمة مالية واقتصادية عامة، وأن لا مناص من تحرّكات ضاغطة جامعة لممثلين عن مختلف القطاعات، تحمل مطلبين رئيسيين: الأول، خطة تعافٍ تأخذ في الاعتبار مصالح الأجراء والمودعين والفئات الشعبية، والثاني، إعادة تشغيل المؤسسات الدستورية، بدءاً من انتخاب رئيس للجمهورية بحسب ما ينصّ عليه الدستور.