في محل ناصر بيضون لبيع السجائر في سوق صيدا، لا ينقطع صدى سؤال: «بكم هذه السجائر؟». يتوالى مرور الزبائن الذين يستفسرون عن أسعار السجائر، لارتباطها بسعر صرف الدولار. بورصة الأسعار فرضت تغييرات، ليس في حجم المبيع لدى بيضون فقط، بل في طبقات المدخنين وطلباتهم. «أعطني أرخص نوع»، طلبت إحدى السيدات من البائع. زوجها اعتاد تدخين سيجارة «ونستون» الأميركية منذ أكثر من ستين عاماً. لكنّ وصول سعر العلبة إلى 120 ألف ليرة، يستهلكها يومياً، أجبره على التحوّل إلى أنواع أرخص. «لم يحتمل سيجارة السيدرز لأنها ثقيلة، رغم أن سعر الكروز الذي يحتوي على 12 علبة يبلغ 350 ألف ليرة». بالمفرق، باتت تشتري له أنواعاً جديدة «لم أحفظ أسماءها. وفي كلّ مرة أغيّر النوع». أما بالجملة، فـ«أشتري له كروز الدخان المهرّب. ومنه ما يكون مزوّراً، أو منتهي الصلاحية، لأنواع سجائر أميركية أو فرنسية، لكن أحياناً نجد السوس قد نخر بعض أوراق السجائر الخارجية». لا تبدي السيدة انزعاجاً من السوس «لا يهمّ. فالضرر مقتصر على غلاف السيجارة الخارجي. وحتى الآن لم ألاحظ أي رد فعل على زوجي». تستدرك قائلة في محاولة لتبرير تقبّل السوس: «التدخين في الأساس مضرّ، مع سوس أو من دون سوس»، متمنية أن يتوقف زوجها عن التدخين: «أوفر وأكثر صحة».

لم يقلع أحد عن التدخين
مثل كثيرين، ظنّ بيضون الذي يبيع السجائر منذ خمسين عاماً، أن ارتفاع أسعار السجائر قد يُجبر زبائنه على الإقلاع عن التدخين. خفّت الحركة، لكن لم يتراجع عدد الزبائن. «هناك من كان يحضر يومياً لشراء أكثر من علبة، لكنه صار يكتفي باستهلاك علبة كل أسبوع. وهناك من كان يشتري السجائر المستوردة بالمفرق من أيّ دكان، صار يقصد أمثالي ممن نبيع بالجملة لتوفير بضعة آلاف ليرة». لكنّ القاسم المشترك بين تجّار الجملة أن «السيدرز أكلت السوق». لماذا؟ «الدولار رماهم على المرّ» يقول بيضون في إشارة إلى مذاق السيجارة الوطنية الحادّ. يشنّ بيضون هجوماً على «الشعب المضروب» الذي لم يتأثر بالأزمة ليقلع عن عاداته السيئة. «جيل بطران لا يكمل يومه إلا بتناول السجائر أو المعسّل، حتى وإن كان لا يأكل أو يشرب بشكل كاف. في السابق، كان عدد زبائني قلة قليلة تقتصر على الرجال الراشدين. لم تكن النساء يتناولن المعسل، اليوم باتت الأم تشتريه لابنتها المراهقة! وكثير من الزبائن الذين يظهر الفقر على هندامهم، تراهم يدفعون ورقة «وان دولار» الممزّقة مقابل علبة «سيدرز أو نوع آخر رخيص».
يتوقع بيضون بأن تشهد أسعار السجائر ارتفاعاً أكبر. «الريجي تفرض على تجار الجملة دفع جزء من ثمن منتجاتها بالدولار بسعر صرف السوق السوداء. لكنّي أظن أنّها في وقت لاحق، سوف تستوفي السعر كاملاً بالدولار» يقول بيضون. مع ذلك، يشير إلى أن السيجارة اللبنانية لا تزال هي الأرخص، داعياً إلى رفع سعرها لمنع التدخين كما يحصل في الغرب. «في الأردن سعر علبة الدخان ثلاثة دولارات، فيما سعرها هنا نصف دولار رغم جودتها».

«دولار الريجي»!
يلمس القيّمون على قسم التجارة في إدارة حصر التبغ والتنباك ارتفاع مبيع سيجارة «السيدرز». الأمين العام للتجارة في «الريجي»، المهندس جورج حبيقة، يجزم لـ«الأخبار» بأن «80% من المدخنين باتوا يستهلكون السيجارة التي نصنعها، منذ بدء الأزمة الاقتصادية وارتفاع أسعار الأنواع المستورَدة».
يرى حبيقة الذي يشغل منصب عضو مجلس إدارة «الريجي» منذ عام 1973، أن السيجارة الوطنية هي الأجود. بين إنتاجها للمرة الأولى عام 1973 وتطوير المعمل الخاص بـ«الريجي» عام 2015، شهدت صناعتها تفاوتاً، بسبب ظروف الحرب الأهلية والمنافسة الأجنبية وازدهار التهريب ورفع الدعم عن الصناعة الوطنية. «منذ عام 2015، أدخلنا إلى المعمل آلات حديثة، باتت تنتج "السيدرز" بمواصفات عالمية، من لفّ السجائر بحجم موحّد، إلى توضيبها في علب كرتونية ذات نوعية عالية» يقول حبيقة. لكنّ سعرها المدعوم الذي بدأ بـ90 قرشاً عام 1973 وانتهى بـ1500 ليرة عام 2019، جعل الكثيرين يستخفّون بها. «رغم ذلك، لم تنتقم الريجي من الزبائن، بل كافأت من لجأ إلى "السيدرز" بعد الأزمة الأخيرة. وقمنا بتخفيض سعرها من 1500 ليرة، أي دولار واحد بحسب سعر صرف عام 2019، إلى 40 ألف ليرة أي نصف دولار بحسب سعر صرف 2023». هذا السعر ناتج من احتساب نفقات شراء المواد الأولية الخاصة بالإنتاج (احتُسبت بنسبة 35%)، ورسوم الجمارك والضريبة على القيمة المضافة (احتُسبت بـ35%)، والباقي احتُسب كأرباح صافية للإدارة. انعكس ذلك على بيع رئاسات بيع الدخان، أو تجار الجملة، بسعر موزّع بين 33% من سعر العلبة يُدفع بالدولار الطازج بحسب سعر الصرف اليومي، و33% تدفع بشيكات بالدولار، و33% تدفع بالليرة اللبنانية بحسب سعر الصرف الرسمي.
الريجي تفرض على تجار الجملة دفع جزء من ثمن منتجاتها بالدولار


فيما تجد «الريجي» نفسها داعمة للمستهلك، يطالب كثر بتخفيض سعر «السيدرز»، ظناً منهم أنّها تُصنّع من التبغ الذي يُزرع في الجنوب والبقاع والشمال. وهنا يوضح حبيقة أن المواد الأولية لإنتاج السيجارة الوطنية هي مستوردة. «15% من تبغ السيدرز هو لبناني، فيما الباقي تبغ مستورد من أفريقيا والولايات المتحدة والبرازيل. كما نستورد المواد اللازمة لتصنيع العلبة من الألومينيوم والورق والفيلتر». ارتباط السيجارة الوطنية بالدولار ليس حديثاً. «عام 1985، اتخذت الريجي قراراً بتسعير "السيدرز" بحسب سعر صرف الدولار، إثر انهيار سعر صرف الليرة الذي بدأ، ولا نزال نعتمد هذا التدبير حتى نحمي أنفسنا. هكذا صار هناك دولار الريجي».



فرصة تحقّقت بعد 50 سنة!
أعادت الأزمة الاقتصادية المدخنين إلى السيجارة الوطنية، لكن مع تعديلات في النكهة. بحسب حبيقة، كانت السيجارة الشرقية أو سيجارة «اللفّ» التي تُصنع ضمن أراضي السلطنة العثمانية من بلاد الشام إلى بلغاريا، من أفخر السجائر في العالم، وتُعرف بـTaba nobles أو Turkish tobacco. ومع تأسيس «المونوبول اللبناني» أو «الريجي» عام 1935، ظلّت تعتمد على التبغ الشرقي في تصنيع الـ«بافرا»، و«تاتلي» و«خانوم» و«ياننجي»... كانت المعامل متنوّعة، وكلّ منها يصنع سيجارته التي تختلف بحسب «الطبخة». وكانت الأكثر رواجاً ورخصاً «البافرا» بسعر 30 قرشاً، فيما «الخانوم» الأجود بسعر ليرة واحدة.
في الخمسينيات، تمكّنت السيجارة ذات النكهة الأميركية من منافسة تلك الوطنية، بسبب إدخالها إضافات على مذاق السجائر وشكلها، من تخفيف حدة التبغ فيها إلى تقديمها ملفوفة جاهزة مع «فيلتر». وساهم الاغتراب اللبناني في تسويق «لاكي سترايك» و«مالبورو» في السوق المحلي.
قبل «السيدرز» كانت سيجارة «أوكي» المحلية تحظى برواج كبير، إلى أن استحوذت «السيدرز» على السوق لأنها صُنعت وفق النكهة الأميركية. وفق حبيقة، «جمعت السيدرز عام 1973 بين الجودة والسعر الرخيص (90 قرشاً) فيما كانت المارلبورو بليرتين ونصف ليرة. لكنّ حظ سيدرز كان سيئاً، إذ اندلعت الحرب بعد عامين فقط». أكثر من خمسين عاماً، احتاجت السيدرز أن تأخذ فرصتها الحقيقية «بالمواصفات نفسها... سعر رخيص وجودة عالية، تمكّنت من غزو السوق منذ ثلاث سنوات» قال حبيقة. وللمشكّكين في مستواها، ينبّه إلى أن «معمل الريجي يصنّع أيضاً ثمانية أصناف من السجائر الأميركية والفرنسية الخاصة بالسوق اللبناني، من مالبورو إلى غولواز وجيتان... بإشراف مندوبين عن شركاتهم».