«مسيو، موعدكم عند الدكتورة هو يوم الاثنين الساعة العاشرة صباحاً». بهذه العبارة تؤكد سكرتيرة طبيبة الأطفال أحد المواعيد، ثم تضيف: «للتذكير مسيو، المعاينة بالدولار الأميركي، وهي 25 دولاراً». العبارة نفسها تكرّرت لدى الاتصال بعيادة طبيبة أخرى متخصّصة في المجال نفسه، فقد ردّت سكرتيرتها على المتصل بإعطائه موعداً حدّدته له، قبل أن تبلغه في نهاية الاتصال أنّ «معاينة الدكتورة تراوح بين 20 و65 دولاراً!». يعدّ إبلاغ المتصل، لأخذ موعد مع الطبيب، مسبقاً بتعرفة المعاينة تصرّفاً جديداً ومستغرباً لم يعهده المواطنون من قبل مع أطباء مدينة طرابلس وجوارها، إذ لم يكن الاتصال لطلب موعد من طبيب/ة، سواء في العيادة أو في قسم العيادات الخارجية يتضمّن «تنبيهاً» إلى «التسعيرة» الجديدة للمعاينة. فالأخيرة لطالما كانت بالليرة اللبنانية، وإن ارتفعت أخيراً إلى حدود ضعف التعرفة التي حدّدتها نقابة الأطباء، مع استثناءات نادرة وقليلة لأطباء كانت تعرفة معاينتهم بالعملة الخضراء. كلّ الفرق كان يتمثّل سابقاً في أنّ بعض الأطباء، وخصوصاً المشهورين منهم أو ذوي الاختصاص النادر، يطلبون بدلاً للمعاينة أكثر بقليل من أطباء آخرين.
هذا التصرّف المستجدّ من قبل الأطباء ضرب عرض الحائط بالقرار الذي أصدرته نقابة الأطباء في 14 تشرين الأوّل الماضي، والذي حدّدت فيه معاينة الطبيب العام بـ450 ألف ليرة، ومعاينة الطبيب الاختصاصي بـ650 ألف ليرة، مع ترك النقابة للأطباء «حرية التصرّف بما يرونه مناسباً لكلّ حالة، والأخذ بالحسبان حالة المريض المادية، والظروف الخاصة بكلّ حالة، مع التشديد على أنّ رسالة الطبيب تفرض عليه التعامل إنسانياً مع المريض».
لكنّ العبارة الأخيرة، وهي «تعامل الطبيب إنسانياً» مع المريض، باتت غائبة كليّاً عن جدول معظم الأطباء في طرابلس وجوارها، وحجّتهم حسب قول أحدهم لـ«الأخبار» إنّ «مصاريفنا باتت كلّها بالدولار، من إيجار العيادة إلى شراء المعدّات واللوازم الطبّية، إلى إيجار المنزل وأقساط المدرسة، فضلاً عن مصاريف أخرى باتت تشهد ارتفاعاً يومياً بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار وانهيار الليرة اللبنانية، فكيف يمكننا أن نستمر إذا بقينا نعمل وفق المعاينة التي حدّدتها نقابة الأطباء؟». لا يتردّد أحد الأطباء في القول إنّه سيغادر لبنان مع عائلته نهائياً الصيف المقبل بعد انتهاء العام الدراسي، مبرّراً الخطوة بأنّ «المستقبل هنا قاتم ولا أمل لي ولعائلتي. ما أجنيه طوال الشّهر هنا، إذا كانت المعاينة 20 دولاراً، وهي معاينة يراها كثيرون هنا مرتفعة وظالمة، أكسبه خلال يومَيْ عمل فقط في إحدى الدول الأوروبية أو في أميركا».
غير أنّ الوضع الصّعب في لبنان اليوم، لا يشبه أوروبا وأميركا في شيء. ففي مدينة يعيش قرابة 85% من سكانها تحت خط الفقر، وفق آخر دراسة أجرتها العام الماضي وزارة الشّؤون الاجتماعية، بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومنظمة اليونيسيف، وحيث إنّ هناك رواتب لا تزال دون 3 ملايين ليرة لبنانية، فإنّ هذه التسعيرة لمعاينة الطبيب تعدّ «ظالمة جدّاً»، على حدّ قول كثيرين، وتدفع معظم أهالي المدينة إلى الاستغناء عن زيارة الطبيب، وهذا ما بات ملموساً بوضوح في عيادات عدد كبير من أطباء طرابلس، فبعدما كانت عياداتهم تزدحم بالمرضى والمراجعين على مدار الأسبوع، باتت اليوم في أحسن الأحوال تشهد زيارة أو مراجعة شخصين أو ثلاثة يومياً.
بعدما كانت العيادات تزدحم بالمرضى باتت تشهد زيارة شخصين أو ثلاثة يومياً


عزوف كثيرين عن زيارة طبيب أو مستشفى في الآونة الأخيرة، بعدما صار الأمر خارج القدرة المالية للسواد الأعظم من الطرابلسيين والشماليين، يعني أنّ مستقبلهم الصحّي بات في خطر. البعض يلجأ، في حال حصول أيّ طارئ صحّي إمّا إلى المستشفى الحكومي الذي لا تزال تكلفة العلاج فيه مقبولة إلى حدّ ما، أو إلى مراكز صحيّة عديدة مدعومة وشبه مجانية انتشرت بكثرة في الآونة الأخيرة، وخصوصاً بعد النزوح السوري إلى لبنان، وهي تقدّم خدمات طبّية بسيطة، فيما تراوح تسعيرة المعاينة فيها بين 20 و100 ألف ليرة، ما جعلها تشهد إقبالاً لافتاً عليها من قبل المواطنين اللبنانيين، بعدما كان الإقبال عليها حتى أشهر قليلة مضت يقتصر على النازحين السوريين دون غيرهم.