يصعب الاستعانة بخريطة المواقع السياحية في طرابلس المتخمة بالآثار. فالمدينة التي ازدهرت منذ قرون، حتى صارت نائبة القاهرة في زمن المماليك، تغيّرت كثيراً. لم تعد فيحاء، بل تكتلات عشوائية لا تنقطع عن الشكوى.أخيراً، وبعد بحث دام خمس سنوات بين «سيلمايات» طرابلس المقفلة، نجحت جمعية «تيرو للفنون والثقافة» بإقناع ورثة سينما أمبير في ساحة التلّ بترميمها وإعادة افتتاحها. عند تأسيسها في الثلاثينيات، لم تكن السينما الأولى. إذ عرفت طرابلس السينما عام 1910، حتى فاق عددها 36 سينما عند بداية التسعينات. «أمبير» جذبت شباناً وشابات من الأحياء المتباينة طبقياً. تطوّعوا للترميم ورفع الردم والتنظيف والتأهيل، وصولاً إلى التمثيل وتنظيم المهرجانات الفنية. منهم ماهر قشلان الذي لم يكن يعرف ساحة التلّ قبل انضمامه إلى فريق التمثيل. ابن الميناء (26 عاماً) نشأ على طرابلس الجديدة، المنقسمة عمودياً بين مقاهي الضمّ والفرز ومتاجر شارع عزمي الفارهة، و بين أحزمة البؤس والعشوائيات. ينتمي قشلان إلى طبقة كانت متوسطة قبل انهيار سعر صرف الليرة على غرار كثير من الطرابلسيين. قدراته المادية لم تسمح له دوماً بارتياد المقاهي والمحال، لكنه لم يجبر مرة على زيارة التبانة والمنكوبين وحارات «العبيد» والتنك في الميناء القديمة. فوجئ بساحة التلّ التي دخل منها إلى طرابلس القديمة. ومثل كثيرين من أبناء جيله، اهتم قشلان حديثاً بسبر أغوار طرابلس والمساهمة بتطويرها. «ليتني لم أفعل. صرت أشعر ماذا يعني الوقوف على الأطلال».
حافظت «أمبير» على موقعها برغم إقفاله منذ عقود. لكن الدُّور الأخرى، ومعها كثير من المقاهي الثقافية، أُقفلت. في المقابل، توسّعت المحال الشعبية التي تبيع الألبسة والهواتف وصرافة العملات وما بينها العربات والبسطات. لا يمكن أن نجد أثراً لروضة دار البريد ومقارّ القنصليات والمصارف والفنادق ومحطة ترامواي الخيل والحدائق الغنّاء الواردة في المراجع التاريخية. انعدم مسرح الإنجا وصمدت بعض المقاهي. السراي القديمة (كانت تعرف بدار الحكومة في العهد العثماني) حلّت فوق أنقاضها «بورة» رمل مع بضع أشجار ومقاعد مكسورة وأكوام نفايات ومشرّدين يستظلون بالجدران. حتى في محيط برج الساعة الحميدية المتوقفة عند الدوران، تفوح الروائح الكريهة. البعض يبرّرها بعدم وجود مراحيض عامة يمكن لسائقي سيارات الأجرة والمارّة والباعة استخدامها.

انفصال الماضي عن الحاضر
الانفصال الأكبر بين الماضي والحاضر يظهر في الهضاب المحيطة بطرابلس القديمة. أبي سمراء والقبة والتبانة كان اسمها «ربوة». في جمعه لذاكرة المدينة لتأليف كتاب توثيقي، كان طلال شتوي يبحث عن دُرر طرابلس كمن يبحث عن إبرة في القش. بحسرة، يتحدّث عن ربوة أبي سمراء وربوة قبة النصر التي صار اسمها (حي القبة) ويجري بينهما نهر أبو علي. جمال الطبيعة ونظافتها قبل عقود شجع الإرساليات على تشييد مدارس ومقارّ لها بينهما مثل مدرسة «الأميركان». وفي أعلى الروابي، شيّد أثرياء المدينة قصورهم كعائلة الشعراني. وكان حي القبة يجذب أبناء المناطق المحيطة من الكورة وبشري وزغرتا للإقامة الدائمة فيه.
الانفصال بين الماضي والحاضر يظهر في الهضاب المحيطة بطرابلس القديمة


بحسب شتوي، بدأ شكل الروابي يتبدّل بعد الحرب الأهلية. على سفحها باتجاه النهر، شيّدت العشوائيات وبيوت الصفيح من قبل النازحين من أرياف عكار والضنية الذين شكلوا أحزمة البؤس التي انتشرت لاحقاً في أنحاء المدينة. ومن نتائج التبدل، أقفلت الإرساليات مدارسها هناك وبعضها انتقل إلى أحياء أخرى حديثة. قبل الحرب، صنعت «طوفة» نهر أبو علي عام 1955، حيّ المنكوبين حينها، جرفت السيول منازل عدد من العائلات المقيمة على ضفتي النهر. فقامت مصلحة التعمير بتشييد منازل بديلة لهم عند طرف القبة، جذب خلال الحرب الفقراء ومعدومي الحال. السمة النخبوية التي غلبت على القبة، قابلتها سمة برجوازية اقتصادية غلبت على جارتها ربوة التبانة أو باب الذهب كما كانت تعرف. تركز عمليات التصدير والاستيراد مع سوريا والعالم العربي، جذب إليها فئات مختلفة من الرأسماليين والتجار الصغار إلى «العتالين». أما أسواقها الداخلية من سوق البازركان إلى الخضر، كان مقصد الأرياف.
في بحثه، وجد شتوي بأن الطرابلسيين كانوا مكتفين اقتصادياً. «كان الاصطياف بمتناول الطبقات الغنية والوسطى. وكانت فئات كثيرة تصنّف وسطى كصاحب النمرة الحمراء (سائق السيارة العمومية). مع اقتراب الصيف، تنقل العائلات الأثاث والحاجيات على عربات الخيل إلى حصرون وإهدن وزغرتا وبشري التي كانت مصايف الطرابلسيين قبل الحرب الأهلية التي نقلت بعضهم إلى الضنية».