انطلقت السبت الماضي ورشة توسعة مجرى نهر الغدير وتعميقه، من قبل فرق متعهدي وزارة الأشغال العامة، والتي قال عنها الوزير علي حمية، عبر صفحته على تويتر، إنها «لم تُقَم منذ أكثر من عشرين عاماً... في محاولة لحلّ المشكلة المزمنة في فيضانه».إعلان لاقى ترحيباً من متابعي حمية على تويتر، لكنه لم يخلُ من انتقادات طالبت بحلول جذرية، تبدأ برفع النفايات والحدّ من رميها في النهر، ولا تنتهي عند معالجة مشكلة البناء المخالف والعشوائي. أما المقيمون في المكان، الذين يرحّبون بأي خطوة تحميهم من فيضان اعتادوا عليه سنوياً، وحالياً من كوليرا تهدّدهم، فمطالبهم لا تختلف: حلول جذرية لا ترقيعية.

من نهر إلى مجرور
منذ سنوات كثيرة، تحوّل نهر الغدير إلى مجرور يسوق إلى البحر خلطات من السموم الكيميائية والعضوية، السائلة منها والصلبة. تصل إلى المصبّ، فتجد محطة تكرير معطلة، عبارة عن دفّاشات لكلّ ما حمله النهر من أعالي عاليه مروراً بكلّ المناطق على طول مجراه.
ابتداءً من سكة القطار كانت جولتنا. نعم، كان في حي السلم سكة يمرّ عليها قطار، يجري تحته نهر صاف، وتحيط به أشجار الزيتون والتوت والصنوبر والمقساس، كما تقول الحاجة حربة وهبة، ابنة الهرمل التي سكنت قرب النهر مذْ كانت صغيرة. تحوّلت المنطقة على عينها من مكان يشبه لوحات رسام، إلى مكان يعجّ بكلّ ما هو كريه من الروائح ولدغات البعوض «حتى البرغش هنا غير شكل، محل اللدغة بتورّم وبتسمّم الجسم وتترك أثراً». حلول فصل الشتاء أمر مريح نوعاً ما بالنسبة إلى وهبة، فـ«الدولة والبلدية تتذكران أن ثمة بني آدمين يعيشون هنا، فتبدآن عمليات تنظيف مجرى النهر، والتخفيف من أطنان النفايات التي تتكدّس طوال الصيف، ويتحوّل بفعلها النهر إلى مكبّ عام وراكد من نفايات ومجارير تخنق الآهلين. تخيّلي كل هذه الروائح مع فطيس الصيف وبلا كهرباء، متنا والله».
يتحدث جيران النهر عن الحياة الجحيمية التي يقضونها بجانبه، والتي ازدادت قسوة مع الانهيار الاقتصادي. نسأل أبو علي عن الخوف من الكوليرا، يجيب وبجانبه حفيده الذي يسعل بقوة، «الكوليرا بحد ذاته عندنا». هنا يعتاش الناس كما يخبرنا مع القوارض والبق والبرغش والصراصير والكلاب الضالّة والقطط التي تجد في النهر البيئة المثالية للتكاثر. «قضينا صيفاً أسودَ من دون كهرباء ومولّدات مقنّنة بالقطارة».
يرجع أبو علي إلى عام 1972، حينما قدم من الهرمل إلى النهر وبنى بيتاً صغيراً، حيث لم يكن هناك سوى الجامعة اللبنانية والبساتين وسكة الترين. «من أمام بوابة الجامعة كان يمرّ نهر، ويصبّ عند ما صار يعرف حالياً بالموقف رقم 4، لينعطف المجرى إلى حي السلم. المنطقة كانت عبارة عن ينابيع وسواقٍ، كلّها رُدمت وحلّت مكانها الأبنية العشوائية». لافتاً إلى أن «ساقية الليلكي لا تزال ظاهرة حتى اليوم. من يصدق أن نهراً كنا نسبح فيه سيتحول خلال 50 عاماً إلى هذا البؤس».

...ومكبّ للنفايات
بدأ الحي يأخذ شكله الحالي مع الحرب الأهلية، وموجات النزوح إلى المدن من الجنوب بفعل الاحتلال الإسرائيلي، ومن البقاع بحثاً عن فرص عمل. بُنيت بيوت على عجل، وأخذت تتدعّم مع الوقت، وبعضها أصبح مبانيَ أغلبها بلون الإسمنت. ندخل منزل أبو علي المعتم بالنهار، لكونه بلا كهرباء، ولا تصله أشعة الشمس، ليرينا المشهد بعدما نظّفت وزارة الأشغال النهر. «ما صرلو يومين منظف، بدأ يمتلأ بالنفايات من جديد. الناس يرمون كلّ نفاياتهم من الشبابيك». يدير السكان من الضفتين ظهورهم إلى النهر. لا شرفة تطلّ على النهر، بل دعائم وجدران من الإسمنت خوفاً من الفيضان، ولسدّ المنافذ أمام الحشرات وما أمكن من روائح طاغية.
«لم نعتد رائحة الغدير، الريحة بتقتل» يقول حسين، الشاب الجامعي الذي يعمل على الفان. المشكلة برأيه هي أن لا بنية تحتية هنا تحول دون اضطرار جيران النهر للتخلص من نفاياتهم في النهر. «الطرقات ضيّقة، هي بالأدق زواريب، فيما تأتي البلدية مرة كل أسبوعين لترفع النفايات التي تتكدّس تحت الجسر، وتتطاير وتنتشر بفعل السيارات والهواء والمارة والنكّاشين، فيستسهل الناس رميها في النهر لتصبّ في البحر».
يشرح حسين «لو أن القصة توقفت على النفايات لكانت سهلة. هنا ترى بوضوح قساطل المجارير تمتدّ من البيوت وتصبّ مياهها السوداء في النهر، ومن أعلى تنزل مخلّفات المعامل والمسالخ. من عاليه وأنت نازلة». يؤكد حسين أن المشكلة تزداد تأزّماً كلما اتجهنا نزولاً باتجاه البحر. «الناس اللي عايشين أقرب للبحر، تحت قرب المحطة يصبّ عندهم كلّ شيء، ونفايات البيوت والرائحة عندهم أقوى نتيجة توقف المحطة».

...وأجرة مرتفعة
جيران نهر الغدير في شارع المرتضى شرق الجامعة، أغلبهم سوريون استأجروا بيوتهم من لبنانيين. يشكون بدورهم مآسي الحياة بجانب نهر الغدير. هناء، وهي أمّ لطفلين وتعيش في المكان منذ 6 سنوات، تقول إنه «إلى جانب الروائح والأمراض، المنازل غالية الإيجار. مليونان ونصف مليون، وأسعار مرتفعة لكل شيء، حتى المياه نشتريها». هنا، ترى الأطفال ينزلون في البرك السامة يسبحون، ويلعبون، ويتقاذفون الحجارة قرب أكياس النفايات، فيما تتدفق المياه الآسنة من القساطل الممتدة من الوحدات السكنية مباشرة إلى النهر.
تقول لنا الحاجة حياة عمار القادمة من بعلبك، «عند كل الناس هنا ستلقين الإجابات نفسها، الرائحة وحدها تلخص كلّ الإجابات؛ كيف هي الحياة هنا؟ إنها حرب، نحن والنهر في حرب».