في أيام «العزّ» لم يكن الاستعداد لفصل الشتاء سهلاً، وهو صاحب الاستحقاقات الكثيرة، من المدارس والمونة والتدفئة وغيرها. فكيف الحال مع اشتداد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، وعلى أعتاب دخول الموسم الرابع للشتاء في ظل الانهيار الاقتصادي؟وصل سعر صفيحة المازوت إلى 28 دولاراً، وطن الحطب إلى نحو 6 ملايين ليرة لبنانية. وفي عملية حسابية بسيطة، يحتاج الناس إلى سبعة براميل مازوت في الشتاء، يُقدّر سعر البرميل بنحو 220 دولاراً، أي بتكلفة 1500 دولار للموسم، فيما يُراوح سعر طن الحطب بين 150 و200 دولار حسب النوعية. وتُقدّر الحاجة الموسمية للحطب بأربعة أطنان، أي نحو 800 دولار، ما يجعل الكثير من العائلات التي تعيش فوق ارتفاع 500 متر عن سطح البحر رازحة تحت وطأة السؤال الصعب عن كيفية تحمّل صقيع الشتاء في ظلّ العجز عن تحمّل أكلاف آخذة في الارتفاع.
وإذا كان الشتاء وبالاً على الناس بفعل عجز معظم الأسر عن تأمين الحطب والمازوت، فهو كذلك على الأحراج الآخذة بالانحسار بفعل أعمال التحطيب، وانتعاش هذا السوق على خلفية الاستثمارات التي يقوم بها كثير من التجار، ومنهم من استحصل على رخص من وزارة الزراعة ليقضي حتى على الأشجار المعمّرة بالقطع الجائر الذي لا يراعي حرمة سوى ما يدرّ الأرباح بحجة تأمين التدفئة.

السماح بالقطع... ولكن!
يبدأ تأمين الحطب للشتاء ابتداءً من شهر تموز بحسب خالد، ابن بلدة مشمش العكارية، ويستمر حتى أيلول وبدايات تشرين الأول. لكن حتى سعر الحطب بات موازياً لسعر المازوت، بين قصّ ونشر ونقل. وهذا ما دفع المواطنين إلى ابتكار حلول علّمتهم إياها سنوات الأزمة «لجأ البعض إلى شراء مخلّفات مناشر الخشب التي تباع بالشوالات (يباع الشوال بـ50 ألف ليرة)، بالإضافة إلى التكافل الاجتماعي ودعم الجمعيات للأشدّ فقراً. كما أن الكثير من البلديات سمحت بالقطع والتشحيل».
يقول رئيس بلدية عكار العتيقة محمد خليل إن البلدية الغنية بالأحراج (نحو 30 كيلومتراً مربعاً) أخذت على عاتقها، بالاتفاق مع الأهالي، اعتماد التشحيل والتنظيف. فعكار العتيقة التي تقع على علو 1200 متر، أغلب سكانها أضحوا فقراء، وهم من الموظفين في القطاع العام والجيش، لا تساوي رواتبهم في حدّها الـ100 دولار. لكن رغم محاولات الضبط هذه، يؤكد خليل صعوبة حماية الأحراج، فـ»تجار الحطب يأتون في الليالي يقطعون أشجار الصنوبر والشوح والسنديان من الكعب في ظل غياب الأمن وهيبة الدولة».

تقنين التدفئة
تقول راوية جعفر من بلدة العين البقاعية إن من تدفّأ السنة الماضية لن يتدفّأ هذه السنة. مؤكدة أنها إلى «الآن وجيراني لم نأتِ بأيّ حركة، سوى ما نجمعه من عروق يابسة من بساتين مجاورة». تذكر راوية، وهي ربّة عائلة لأربعة أولاد، وزوجها يعمل في السباكة، أنها كانت في الموسم الماضي تطفئ الصوبيا من الصباح حتى المساء، و«أشعلها فقط عندما نشعر بالصقيع غير المحتمل، وعندما لا تلبي الحرامات والأغطية المكوّمة فوقنا». سعت راوية في تقنينها الشديد هذا إلى إطالة أمد عمر تنكة المازوت أطول فترة ممكنة. وهي تقف اليوم عاجزة عن التفكير في المستقبل القريب «اليوم برميل المازوت سعره أكثر من 10 ملايين».
أما ندى شريف من بلدة اليمونة (علو 1375 متراً عن سطح البحر) التي يقضي معظم أهلها الشتاء فيها، فتؤكد أن الأهالي «شحّلوا من أحراجها (سنديان عفص وزعرور) وبعضهم يجزّون أشجار بساتينهم المثمرة من اللوز والكرز والمشمش، وحتى دوالي كروم العنب لأنهم لا يملكون المال لشراء المازوت، أما من ليست لديه أراض فهو يشتري الحطب، وغير القادر على شراء الحطب فـ«إلو الله». وتلفت ندى إلى أن معظم من كان «يبحبح» الحطب بات يقنّن استعماله، إذ إن «الكثير من العائلات تجلس في غرفة واحدة للتدفئة ولم تعد تشمل أكثر من غرفة».

غياب الرقابة
في هذا الإطار، يؤكد رئيس بلدية بعلبك فؤاد بلوق أن «الوضع مأساوي في بعلبك. بعض المواطنين يلمّون العروق اليابسة، وكثيرون يتعدّون على الأحراج وعلى الأراضي التابعة للدولة والبلدية وحتى على أراض خاصة نظراً إلى ارتفاع أسعار المازوت، ما يجعل ما تبقّى من ثروة حرجية في لبنان في خطر الإبادة». ثمة دوريات للجيش لكنّ المنطقة كبيرة يقول بلوق، علماً أن كثيرين يعملون في القطع تحت جنح الظلام. إزاء ذلك طلبت البلدية من المنظمات الدولية والدول المانحة مساعدات لمدّ المدارس «على الأقل» بمُؤنة التدفئة لكن «لم يبد أحد استعداد، حقيقةً الناس ينتظرون حزب الله».
حاملو الرخصة يتخذونها حجة لقطع الأشجار المعمّرة في غياب الرقابة


ويؤكد بعض الأهالي أن دوريات الجيش ضبطت العديد من حمولات الحطب القادمة من الجرود، من أشجار صمغية، محرم قطعها، من نوع الملول واللزاب والسنديان وصادرت محتوياتها مع المناشير، لكن في الوقت نفسه أشاروا إلى أنه حتى حامل الرخصة يتخذها حجة لقطع الأشجار المعمّرة في غياب الرقابة وضعفها وخاصة في الجرود.
تنسحب هذه الأزمة حتى على القرى والبلدات القليلة السكان في فصل الشتاء، مثل راشيا الفخار، فيقول رئيس بلديتها سليم يوسف: «أنا من الناس غير القادرين على شراء المازوت. فمن يقدر على دفع تنكة مازوت بـ 800 ألف ليرة!». لافتاً إلى أن سكان راشيا في الشتاء جداً قلة. حيث يبقى المزارعون ومربّو الدواجن غالباً، وهؤلاء يشحّلون أرزاقهم ولا يقطعونها، من أشجار برية وتوت وكينا وسنديان، فلا حلّ آخر أمامهم».