يبدو أن ما وصلت إليه «الإنسانية» من كوارث مناخية ليس بجديد، أو هو امتداد لما هو قديم وأسطوري بشكل أو بآخر. فقضية الطوفان المهدّد للنوع كانت ماثلة في الأساطير القديمة والتي لم ينجُ منها إلا نوح ومن معه. من دون نسيان ملحمة جلجامش التي كانت تتحدث أيضاً عن الخلود الجسدي المستحيل. وقصة بروميثيوس الذي سرق النار من الآلهة الإغريق ونقلها إلى الناس وعوقب على فعلته، والتي لا تزال تتكرّر فصولاً، مع سحب (وسرقة) الوقود الأحفوري من تحت الأرض والتسبّب بتغيّر المناخ وارتفاع درجات حرارة الأرض بسبب زيادة الطلب على النار والطاقة الذي فاق كل حدود. أما العنوان الأبرز للعيش مع الكوارث المناخية والوبائية الجديدة، إلى أن تقضي على النوع الإنساني، فهو في القدرة على التكيّف معها. لقد تأخّرت البشرية كثيراً في معالجة قضية تغيّر المناخ التي تُعتبر أكبر قضية واجهتها الإنسانية على الإطلاق، وقد تخطت كلّ الخطوط الحمر. حتى لو توقف العالم الآن واتخذ قراراً جماعياً في قمة المناخ الـ27 التي ستُعقد بعد أسابيع في شرم الشيخ بوقف كل الانبعاثات من أي نشاط إنساني كان، فإن المظاهر المناخية المتطرّفة لن توقف وتيرتها وارتفاع درجات حرارة الأرض التصاعدية لن يتراجع، لأن الانبعاثات، وخصوصاً من نوع ثاني أوكسيد الكربون، متراكمة في الغلاف الجوي وتأثيراتها تستمرّ لأكثر من خمسين سنة في أقل تقدير. إذاً ما حيلة الإنسانية الجديدة سوى محاولة التكيّف مع تلك الكوارث؟ وكيف؟
إذا كان التكيّف هو العنوان الأول، فإن العيش ضمن المفارقات سيكون العنوان الثاني. فكم ستبدو هذه المفارقات في العيش غريبة حين نعلم أن ارتفاع درجات حرارة الأرض وذوبان الجليد في القطب الشمالي سيتيحان الوصول إلى احتياطات الغاز التي كانت شبه مستحيلة سابقاً. وتشير التقديرات إلى أن 30% من احتياطات الغاز الطبيعي المتبقية في العالم موجودة في القطب الشمالي. كما أن هذا الجليد الذي بدأ بالذوبان بشكل متسارع، كان يحتجز ملايين السنوات من مقوّمات الحياة التي بدأت بالعودة إلى السطح وبينها جثث لكائنات ملوّثة ببكتيريا، منها «الجمرة الخبيثة» التي كانت في سُبات كامل داخل الجليد طوال قرون. ويتخوّف الكثير من العلماء من أن يؤدي ذوبان الجليد إلى إعادة إحياء فيروسات أو بكتيريا أدّت إلى انقراض أنواع كثيرة في الماضي البعيد، ويمكن أن تهدّد النوع الإنساني هذه المرة. بالإضافة إلى البكتيريا القاتلة التي يمكن أن تتولّد وأن تنتشر على مستوى العالم، بدأت الكثير من المواد العضوية الخاملة بالتحلّل مع ذوبان الجليد والتي تتسبّب بانبعاثات غاز الميثان الذي يُعتبر من غازات الدفيئة وله فعالية أكبر بـ36 مرة من غاز ثاني أوكسيد الكربون بتأثيره على تغيّر المناخ!
ذوبان الجليد سهّل على بعض العلماء البحث عن آثار وبقايا ثقافات قديمة، يمكن أن ترشدنا إلى معرفة كيف كانت الأرض وكيف تعامل القدماء مع التغيّرات المناخية، ما قد يساعدنا في التعامل مع التغيّرات الحالية. إلا أن سرعة التغيّرات التي تحصل من سنة إلى أخرى لن تترك المجال لاستكمال هذه الدراسات. مع زيادة الحرارة وزيادة نشاط البكتيريا يمكن أن تأكل الفضلات العضوية ولا تترك شيئاً خلفها، ما دفع عالم الآثار توماس ماكغوفيرين إلى القول إن «ما بدأ يحترق في الأماكن المتجمّدة يتسبّب بخسارة ما يعادل مكتبة الإسكندرية في قلب الأرض». كما هدّد ذوبان الجليد الكثير من بنوك البذور في تلك المناطق، وهي من أخطر المشاكل المهدّدة للأمن الغذائي العالمي (نتحدّث عنها لاحقاً). والخلاصة أننا نشهد حالة انهيار متسارعة للبنيتين البيئية والمعرفية في آن!
والحالة هذه، لن تكون هناك تقنيات منقذة خضراء ولا غير خضراء. وما من علوم تستطيع أن تضبط أو توقف الكوارث التي تسبّب بها العلم. فمع الارتفاع المتصاعد في نسب الانبعاثات في الجو، وزيادة الكوارث المناخية وتدميرها للكثير من نُظم الأمان الصحية والكثير من شبكات الاتصال والمعلوماتية… ستنخفض القدرة المعرفية الإنسانية وتصاب بإرباك شديد بعد أن تثقل غازات الدفيئة عقولنا بالغيوم وتجرّدها من القدرة على التفكير بطريقة أخرى من أجل البقاء… كما يتوقع جيمس برايدل في كتابه «عصر مظلم جديد».
من هنا ليس أمام إنسانية الكوارث إلا العودة إلى الأسطورة التي يفترض أن تخلق أوهاماً جديدة بإمكانية العيش على كوكب آخر، أو في هذا الكوكب افتراضياً، انسجاماً مع روح العصر، أو إمكانية العيش في زمن آخر، سابق أو آتٍ، حسب تشكيلات الأساطير الجديدة ما بعد الإنسانية وما بعد العلوم التي يتأكد فشلها يوماً بعد آخر.
عبّرت قصة الطوفان عن نهاية الإنسانية الأولى، وأخذ الإنسان فرصة ثانية لإعادة تشكيل إنسانية جديدة أقل ارتكاباً. وها نحن اليوم نشهد نهاية جديدة لمرحلة الفلسفة الإنسانية المبالغ في إنسانيتها، أي تلك التي اعتبرت الإنسان مركز هذا الكون وسيّده، أو التي اعتبرت الإنسان بمثابة الله على الأرض، أو مخلوقاً على صورته ومثاله. فما الذي ستكون عليه إنسانية ما بعد الكوارث المناخية؟ ماذا ستكون عليه مرحلة ما بعد الإنسانية الثانية؟
العودة إلى الأساطير اليوم لا تعني العودة إلى توصيف الكوارث، ولا تعني البحث عن تجنّبها، ولا البحث عن الخلود ولا البحث عن القوة والطاقة، ولا البحث عن مغامرات جديدة للعقل...
ليكن العنوان الجديد- القديم، البحث عن الوجود وليس البحث عن الخلود. البحث عن كيفية عيش حياتنا اليومية أكثر من الاهتمام بالمستقبل.
فلتكن معالم الإنسانية الجديدة أكثر تواضعاً، تبحث عن اللعب والمرح وعيش اللحظة. وليكن عنوانها التضامن بدل التنافس. التضامن في الفرح بدل التضامن في الحزن أو المذهب أو الحزب، والتضامن من أجل زيادة القدرة على التأقلم وعلى اتّقاء المخاطر. الانتقال إلى مرحلة إنسانية جديدة يكون الإنسان الجديد قد سئم من التفكير من أجل الاستثمار والربح، وعاد إلى حب التفكير من أجل التفكير، وحب العلم من أجل العلم والمعرفة من أجل المعرفة. وأخيراً، العودة إلى متعة الاكتشاف والدهشة بدل متعة الاستهلاك المؤلمة والمدمرة.