يصارع الموظفون في القطاع العام اليوم للبقاء على قيد الحياة، يفتشون عن أعمال أخرى تقيهم شرّ العوز، على سبيل المثال، يقوم أستاذ فيزياء باستغلال معرفته في عالم الكهرباء لتركيب أنظمة الطاقة الشمسية. محظوظ هذا الموظف، فـ"المصلحة تبيض ذهباً". آخرون اتجهوا نحو التسويق الإلكتروني، فيما فضّل حملة الشهادات العالية من الموظفين هجرة الوظيفة العامة نهائياً، إما نحو القطاع الخاص أو إلى خارج البلاد. في المقابل، هناك عدد من الموظفين أفنوا حياتهم في الوظيفة العامة من دون أن يقدّروا، حتى في أسوأ أحلامهم، أنّهم سيصلون إلى هكذا أيام. هؤلاء وجدوا أنفسهم من دون معين على الصمود، منهم من ينتظر "المئة دولار" من ذويه المغتربين، أو استغلّ جنسية دولة أجنبية لم تكن مغرية سابقاً، للهروب من لبنان، ومنهم من يفتش عن عمل آخر. ولكن خلال هذا البحث سقطت الوظيفة العامة وبدأت دوائر الدولة تخلو من موظفيها وكوادرها المدربين، وهذه الخسارة الأكبر التي لا يمكن تعويضها.
تمتدّ المشكلة إلى كل الفئات الوظيفية، من الأولى (القضاة والمديرين العامين)، وصولاً إلى الفئة الخامسة (حُجّاب وسائقين). والفئة الأخيرة هي الأكثر مظلومية، إذ لا يتخطى راتب العاملين فيها الـ 900 ألف ليرة. إذاً، الوظيفة العامة انتهت، و"الناجي من يجد فرصة عمل ويترك القطاع العام" بحسب رئيس مصلحة القضايا في الضمان الاجتماعي، صادق علوية.

رحيل النخبة
"الكفاءات رحلت"، تجزم رئيسة مجلس الخدمة المدنية نسرين مشموشي، وتخرج دفاترها لتقرأ مؤشرات "الرحيل". تتكلم مشموشي عن "1100 موظف تركوا الخدمة خلال العامين الماضيين فقط، وهذه الأرقام هي التي مرّت بالمسار القانوني، أي عبر مجلس الخدمة المدنية، بينما هناك معلومات لم تتّضح بعد بسبب الإضرابات". أما من يتركون العمل وفق صيغة "إجازة بلا راتب" فلا يمكن للمجلس تحديد أعدادهم بسبب عدم إرسال إداراتهم هذه المعلومات إلى المجلس.
المشكلة تنسحب على كلّ الوزارات بمختلف مديرياتها، في جهاز التعليم الثانوي وحده غادر ما يقارب 2100 أستاذ، أكثريتهم طلبوا إجازات من دون راتب نظراً إلى عدم وجود شروط صعبة للموافقة عليها، ومنهم من اختار "الاستيداع"، أو طلب وضعه خارج الملاك. هؤلاء الأساتذة أصحاب خبرات لا يمكن تعويضها. رئيسة رابطة التعليم الثانوي ملوك محرز تؤكّد على فكرة "تفريغ المؤسسات التربوية من الكادر المؤهل"، وترى أن "هذه الهجرة ستؤدي إلى إضعاف المدرسة الرسمية وتجويفها".

إلى الخليج وأفريقيا
وجهة هؤلاء الأساتذة الأساسية هي مدارس دول الخليج أو أفريقيا (مدارس الجالية اللبنانية). هناك، الرواتب "هزيلة" لكنها تدفع بالدولار، وتبقى أفضل بأشواط من الوضع في لبنان. وهناك عدد لا يستهان به منهم فضل ترك التعليم نهائياً والتفرّغ لأعمال أخرى كحال أستاذ الكيمياء في التعليم الثانوي، "الدكتور محمد" الذي غادر إلى أفريقيا للعمل مع أقرباء له في "معارض بيع قطع السيارات" براتب يصل إلى 2000$.
1100 موظف تركوا الخدمة خلال عامين وآخرون في إجازة من دون راتب


حال أساتذة الجامعة اللبنانية ليس أفضل، هؤلاء يمكنهم الرحيل أسرع بكثير من غيرهم لصلاتهم شبه الدائمة مع جامعات وشركات الدول التي تعلموا فيها. لا رقم نهائياً عن حجم هجرتهم كونه يخضع لعدة معايير، لكن يمكن القول إن بعض أقسام كليّة العلوم فقدت ما يقارب الـ 60% من أساتذتها. في قسم الرياضيات التطبيقية وحده ترك 8 أساتذة في فرع واحد حتى الآن من دون وعد بالعودة، والمشكلة ستظهر جليّةً عند انطلاق التدريس في العام الدراسي المقبل وخاصةً "مع نهاية زمن الأونلاين".
وفي مؤسسة كهرباء لبنان نزف على مستوى اليد العاملة الماهرة والمتخصصة، فهجرة المهندسين والتقنيين تترك المعامل معطلة و"لو عاد الفيول إليها". معمل الذوق على سبيل المثال، لن تعمل فيه أكثر من مجموعتَيْ توليد من أصل أربع، بسبب هجرة المهندسين المسؤولين عن فرق العمل، كما العمّال المؤهّلين للتشغيل.

الإدارات والمؤسسات
تحذّر مشموشي من الفراغ الكبير في الإدارات العامة والمؤسسات، "في الدولة اللبنانية 27 ألف وظيفة، يَشغلها 8 آلاف موظف فقط، ما يعني بأنّ هناك ما يقارب 19 ألف وظيفة شاغرة". وترى بأنّ "الشغور مرشح للارتفاع ولا سيّما بعد انتهاء صلاحية قانون الموازنة 144/2019 الذي منع الموظفين من التقاعد المبكر. ففي الحالات العادية للتقاعد (بلوغ السن القانونية) سيخرج 1866 موظفاً من الخدمة خلال السنوات الخمس القادمة.
"الخروج من المشكلة ليس صعباً" بحسب مشموشي،، ولكن علينا التفكير بطريقة مغايرة. "الدولة يجب أن تبتغي الربح، وعليها تحصيل واردات لتتمكن من تقديم الخدمات". ولكن في المقابل، "الحلول القطاعية (دفع حوافز مثلاً) مرفوضة لأنّها مخالفة لمبدأ شمول الموازنة وشيوعها"، ولأنّها تؤدي أيضاً إلى "هجرة داخل القطاع العام". دعم رواتب وزارة معيّنة سيدفع بالموظفين لمحاولة الانتقال إليها لتحصيل هذه البدلات، وبدلاً من ذلك على الدولة أن تدفع لموظفيها بدلات نقل مجزية "تساعد في الوصول إلى العمل، فكيف يمكن أن تطلب من موظف الوصول إلى مركز عمله براتب لا يكفي لدفع بدلات النقل"، بالإضافة إلى إعادة الهيكلة وتفعيل الرقابة والتفتيش، وتقارير الإنتاجية.