حديقة الصنائع التي بدت لوحة فنية يوم افتتاحها بعد تجديدها سنة 2014 بهتت وبدت عليها علامات الترهّل والتعب. فكما أصاب الانهيار الاقتصادي كلّ شيء في لبنان أصابها، وإن كانت لا تزال متماسكة.تظهر علامات الترهّل، قبل الدخول إلى الحديقة، على الأرصفة التي غزتها النفايات، كما انتشر العشب اليابس داخلها. الأشجار غير مشذّبة، فيما أتاح جفاف بركتها للأطفال الذين يركضون حولها أن يرموا فيها مخلّفاتهم.
في الماضي القريب، كانت عيون الحرّاس وعمّال النظافة عليها، يحافظون على نظافتها وجمالها، ويكنسونها كلّ يوم. أما اليوم، فيمكن أن ترى طفلاً ينزل سرواله ويبوّل على العشب من دون أن يؤنّبه أحد. قد يبدو محقاً لأن الحمامات لا يمكن الدخول إليها بسبب انعدام النظافة فيها.
على الرغم من هذا المشهد، تعجّ حديقة الصنائع كلّ يوم تقريباً في وقت العصر، بالصغار والكبار. بالنسبة إلى هؤلاء، ومعظمهم من جيران الحديقة، هي المكان الوحيد للترويح عن النفس واستقطاع زمن قليل لشيء من الهدوء والتأمل. بعضهم يتنزه، فيما يمارس آخرون رياضة الركض. الأطفال والمراهقون يستأجرون الدراجات الهوائية من المحل القائم عند مدخل الحديقة. أما معظم كبار السن فيتخذون أماكنهم تحت ظلال الأشجار المعمّرة. منهم من يجلس وحيداً سارحاً في همومه، ومنهم من يتشارك أعباء الحياة وهمومها، والكثير من الصمت، مع رفاقه.
بالنسبة إلى السيدة هند فـ«الصنائع» امتداد لبيتها القائم في الظريف. لها موعد يومي فيها عند ساعات العصر. في الحديقة، تعرّفت هند إلى «رفاق الحديقة» كما تعرّف عنهم، وهؤلاء قادمون من أحياء عائشة بكار والملا والوتوات ورأس بيروت. تقضي معهم أوقات ما بعد الظهيرة «صرنا كالأهل، ومن يتغيّب منهم أطمئن عنه هاتفياً». تحضر معها ترمس قهوة كبيراً تعدّه في البيت ليؤنس القعدة «فلولا الجنينة لكنت جننتُ ولا سيما أنني حبيسة جدران المنزل طيلة فترة ما قبل الظهر».

متنفّس للسوريين
تبدو هند ورفاقها قلّة، أمام غالبية من اللاجئين السوريين، من أبناء ريف حلب ودير الزور والرقة. تحضر النسوة مع أولادهنّ بشكل يومي، بما أنهنّ أيضاً من جيران الحديقة بسبب عمل أزواجهن في حراسة المباني القريبة. أما في عطلة نهاية الأسبوع، فتشهد الحديقة اكتظاظاً ملحوظاً، إذ يقصدها سوريون من سكان الضواحي بحثاً عن وجهة مجانية لـ«شمّ الهوا». كما تستقطب العمال المهاجرين، من إثيوبيين وبنغلادشيين وسودانيين، يأتون إليها بحثاً عن شيء من الخضرة والظلّ ومساحات للعب الأطفال. وقد ازداد الإقبال إلى الحديقة أخيراً بسبب الغلاء، ما جعلها المتنفس الوحيد للناس.
نهاد واحدة من هؤلاء النسوة. تعيش في عائشة بكار وتزور الحديقة تقريباً بشكل يومي. «هنا ألتقي بالكثير من السوريين من محافظات متنوعة، صاروا أصدقائي نتسلى ونسلي الأولاد». تشكل الحدائق جزءاً من طفولة نهاد وشبابها، هي القادمة من طرطوس حيث كانت حديقة الباسل وحديقة الطلائع أساساً في حياتها قبل سنوات مضت.

«استياء لبناني»
هذا الحضور الكبير للسوريين لم يمرّ بلا مشاكل واستياء من بعض اللبنانيين، وخصوصاً من جيران الحديقة، بسبب الفوضى وانعدام النظافة. منهم من عزف عن القدوم، بحسب ربيع، وهو زائر منتظم للحديقة منذ أربع سنوات. يشرح «أن بعض الزوار لا يعرفون النظام ويهملون أطفالهم، ما دفع الناس إلى ترك الحديقة خوفاً على أطفالهم، خصوصاً بعدما انخفض عدد الحرّاس في الحديقة من 7 إلى حارس واحد تابع للبلدية». ترتب على أثر ذلك قرار أوّلي بإقفال الحديقة عند الساعة السادسة والنصف، وبعد خروج السوريين منها، يُسمح للبنانيين بالبقاء ساعة إلى ساعة ونصف ساعة إضافية، بحسب أحد الزائرين للحديقة.
يدرس محافظ بيروت السماح بالدخول بناءً على بطاقات دخول مجانية تُمنح للروّاد


رئيسة دائرة الحدائق في بلدية بيروت منى عماش تؤكد التزام شركة «آزاديا»، التي أعادت تجديد الحديقة سنة 2014 ، الاهتمام بالحديقة وتأمين صيانتها حتى اليوم. غير أن بعض الإهمال الملحوظ في الحديقة هو من تبعات الانهيار الاقتصادي، «فارتفاع الأكلاف سبّب بعض المشاكل من قبيل نقص المياه للريّ، وانقطاع الكهرباء، والاضطرار للريّ بالنبريش العادي، ما أثّر في العشب الذي يبس بعضُه. كما أن نقص المياه في بيروت ككلّ كان له تأثيره في نظافة الحمامات في ظلّ دخول أعداد هائلة يومياً إلى الحديقة». وتلفت إلى غياب ثقافة الحديقة عند اللبنانيين، ما يفسّر غيابهم عنها بخلاف السوريين الذين اعتادوا أن يقصدوا الحديقة حتى لو من أماكن بعيدة.

قرار مؤقّت؟
يبرّر محافظ بيروت القاضي مروان عبود قرار إغلاق حديقة الصنائع بـ«تزايد شكوى الأهالي من اكتظاظ الحديقة بروّادها وتحديداً السوريين»، مؤكداً أنه قرار «مؤقّت حتى تهدأ الأمور». ويدرس عبود خيار السماح بالدخول إلى الحديقة، كما حرش بيروت، بـ«بطاقات مجانية وذلك بعدما كثرت الممارسات التخريبية التي يقوم بها البعض، كإدخال النراجيل ومناقل الفحم للشواء وازدياد النفايات وتخريب بعض الممتلكات العامة، فضلاً عن ممارسات أخرى مخالفة للقانون ضُبطت في حرش بيروت».