لم يمرّ يوم الأوزون العالمي في 16 أيلول كالعادة هذا العام. كان مناسبة لاستعادة المفاوضات الدولية حوله بعد انقطاع 4 سنوات بسبب كورونا، ومناسبة أيضاً لاختبار مدى الجهوزية للبدء بتطبيق «تعديلات كيغالي»، التي تعني عملياً بدء دمج موضوع الأوزون مع قضية تغيّر المناخ. وهو موضوع لن يكون سهلاً على الدول، نظراً إلى التقدّم الفريد المحرز في قضية ثقب الأوزون، بالمقارنة مع التراجع الدراماتيكي في تطبيق اتفاقية باريس المناخية. والسؤال العاجل الذي يُطرح في هذا المجال: لماذا تم اعتبار اتفاقية فيينا وبروتوكول مونتريال وتعديلاته للحدّ من ثقب الأوزون بمثابة الاتفاقيات الدولية الأنجح عالمياً بالمقارنة مع الاتفاقيات البيئية الأخرى؟ هل لأنها حدّدت موادَّ كيميائية محدّدة تستنفد طبقة الأوزون، وتم إيجاد بدائل لها؟ أم في الأمر أسباب أخرى؟ وهل كان هذا «النجاح» سهلاً وكاملاً، أم كانت له تداعيات لم تنته مفاعيلها بعد؟
للإجابة على هذه الأسئلة، لا بد من الاستعراض أولاً وباختصار للمراحل التي مرّت بها قضية ثقب الأوزون والاتفاقيات المتعلقة بها.
نشأت المخاوف من أن طبقة الأوزون الستراتوسفيرية للأرض يمكن أن تكون في خطر من مركبات الكربون الكلورية فلورية (CFCs) وغيرها من المواد البشرية المنشأ لأول مرة في أوائل السبعينيات. في ذلك الوقت، حذّر العلماء من أن إطلاق هذه المواد في الغلاف الجوي يمكن أن يستنفد طبقة الأوزون، ما يعوق قدرتها على منع الأشعة فوق البنفسجية الضارّة من الوصول إلى الأرض. وهذا من شأنه أن يؤثر سلباً على النظم الإيكولوجية للمحيطات، والإنتاجية الزراعية، وعلى الحيوانات والكثير من الأنواع، ويضرّ بالبشر من خلال ارتفاع معدلات الإصابة بسرطان الجلد، وإطفاء عدسة العين، وإضعاف أجهزة المناعة. واستجابة لذلك، عقد برنامج الأمم المتحدة للبيئة مؤتمراً في آذار عام 1977 اعتمد خلاله خطة عمل عالمية بشأن طبقة الأوزون، وأنشأ لجنة تنسيق لتوجيه العمل الدولي في المستقبل.
بدأت المفاوضات بشأن اتفاق دولي لحماية طبقة الأوزون في عام1981 تحت رعاية برنامج الأمم المتحدة للبيئة. وفي آذار 1985، تم التوصل إلى إبرام اتفاقية فيينا لحماية طبقة الأوزون، التي تدعو إلى التعاون في مجالات الرصد والبحث وتبادل البيانات… ولكنها لا تفرض التزامات بالحدّ من استخدام المواد المستنفدة للأوزون (أسوة بما كان يحصل مع قضية تغيّر المناخ). انضمّ إلى الاتفاقية 198 طرفاً، ما مثّل تصديقاً عالمياً عليها. وفي أيلول 1987، أدّت الجهود المبذولة للتفاوض بشأن التزامات ملزمة بخفض استخدام المواد المستنفدة للأوزون إلى اعتماد بروتوكول مونتريال الذي دخل حيّز التنفيذ في كانون الثاني 1989. وأدخل بروتوكول مونتريال تدابير رقابية على بعض مركبات الكربون الكلورية فلورية والهالونات للبلدان المتقدمة. ومُنحت البلدان النامية (الأطراف العاملة بموجب المادة 5) فترة سماح تسمح لها بزيادة استخدامها للمواد المستنفدة للأوزون قبل الوفاء بالالتزامات (تماماً كما حصل مع بروتوكول كيوتو للمناخ). وقد صدّق على البروتوكول 198 طرفاً (دولة).
ومنذ عام 1987، اعتُمدت تعديلات وتسويات عدة، وأضيفت التزامات جديدة ومواد إضافية وعُدّلت جداول المراقبة القائمة وتم التصديق على التعديلات من عدد معين من الأطراف قبل دخولها حيّز النفاذ. صدّق 197 طرفاً على جميع التعديلات، باستثناء أحدث تعديلاتها، وهي تعديل كيغالي عام 2016، إذ اتفق المندوبون على تعديل البروتوكول ليشمل مركبات الكربون الهيدروفلورية كجزء من نطاقه ووضع جداول زمنية للتخفيض التدريجي لمركبات الكربون الهيدروكلورية فلورية.
لا تشكل مركبات الكربون الهيدروفلورية تهديداً لطبقة الأوزون ولكن لديها إمكانات عالية للتسبّب بالاحترار العالمي وتغيّر المناخ. فتح هذا التعديل الأخير الباب واسعاً إذاً على إدماج موضوعَيْ طبقة الأوزون وتغيّر المناخ، وهذا ما يمكن اعتباره تحدياً جديداً وجدياً أمام الدول، كون التصديق على اتفاقيات المناخ لم يكن يعني يوماً الالتزام، وكون قضية تغيّر المناخ تتجاوز تغيّر نوع تقنية معيّنة في التكييف والتبريد أو تغيير غاز معين، بل تعني تغيير النظام الحضاري المسيطر بأسره!
صدّق 136 طرفاً على تعديل كيغالي، الذي دخل حيّز التنفيذ في أول كانون الثاني 2019. وخُصّص الاجتماع الذي عُقد الأسبوع الماضي في دبي لمدة أسبوع، ونظّمه برنامج الأمم المتحدة للبيئة لممثلين عن مكاتب الأوزون في دول المنطقة، بمناسبة اليوم العالمي للأوزون، للبحث في كيفية تطبيق تعديلات كيغالي.
طُرحت في الاجتماع كيفية الالتزام بالتعديلات، وفي مواصفات قطاع التبريد والتكييف المستقبلية، ومستقبل التكنولوجيات الجديدة في هذا المجال وكيفية التدريب على الاستخدام أو إعطاء شهادات والتراخيص... بالإضافة إلى تقييم التشريعات الموجبة والتصديق على الاتفاقيات والتعديلات وكيفية تشكيل اللجان التشاركية المعنية بين القطاعين العام والخاص والأكاديمي والنقابات، وتغيير المناهج التعليمية، ولا سيما في المعاهد الفنية وكيفية إعطاء الشهادات للتعامل مع مواد يمكن أن تكون حارقة وغير آمنة، مع وضع مواصفات السلامة وكفاءة الطاقة وحماية البيئة... كما طُرحت الإشكاليات المتعلقة بكيفية التعامل مع الغازات والمعدّات القديمة.
إلا أن الإشكالية التي طُرحت بقوة في هذا السياق، تناولت كيفية رصد البلدان النامية لما يحصل ومراقبته، من «تطور تقني» في البلدان المتقدمة صناعياً. وكيفية التأكد من التغيير في التقنيات والغازات لن تكون مضرّة بجوانب أخرى غير منظورة أو مجرّبة كفاية بعد. معطوفة على سؤال: لماذا تخلّت تلك البلدان عن المطالبة ببند نقل التكنولوجيا الصديقة للبيئة والمناخ وطبقة الأوزون إلى البلدان النامية من دون أي قيد بموجب قوانين حماية الملكية الفكرية وحفظ براءات الاختراع، وذلك كتعويض مستحق من البلدان المتقدمة صناعياً للبلدان النامية على ما تسبّبت به الأولى بتغيّرات مناخية وبثقب طبقة الأوزون، بسبب اختراعاتها وتقدّمها؟ وكيف يمكن ترجمة تلك الاتفاقيات والبروتوكولات وتطبيقاتها؟ كما طُرحت إشكالية أكثر عمقاً، تتمحور حول كيفية وضع المواصفات الجديدة لكلّ شيء، وكون متطلبات حماية الاقتصادات المحلية والصحة العامة والبيئة يجب أن تسبق وضع المواصفات الجديدة، وأن المسألة تتخطى تغيير غاز مكيّف صديق للأوزون، إلى مراجعة كفاءة الطاقة في التقنيات وفي البناء أيضاً. فما هو انتفاع سكان الأبنية الزجاجية، على سبيل المثال، من تغيير غاز مكيف، طالما البناء نفسه يحتاج إلى الكثير من الطاقة للتبريد، ما يعني المزيد من حرق الوقود وزيادة الانبعاثات المؤثّرة في تغيّر المناخ؟ كما يحتاج البناء الزجاجي إلى الكثير من المياه للتنظيف، ما يعني المزيد من الطاقة أيضاً لتحلية مياه البحار وزيادة ملوحتها وقتل الحياة فيها. وهذا يعني في الحصيلة، أن التعديلات الأخيرة التي تم وضعها على اتفاقية حماية الأوزون والتي تطاول موضوع تغيّر المناخ، تحتاج إلى ما هو أبعد من تغيير تقنيات ومواد كيميائية معيّنة بأخرى، لا بل تحتاج إلى تغيير نموذج حضاري بأسره، قائم على «التنمية»، والزيادة والمزايدة في كلّ شيء. وباختصار هناك حاجة إلى أنظمة جديدة تساهم في رتي ثقب الحضارة الكبير بدل رتي ثقب الأوزون الصغير، وهذا الشعار هو الذي كان من المفترض رفعه في يوم الأوزون العالمي.