لا يعكس الصخب السياسي والقضائي بين أهالي كفريا، واقع البلدة الكورانية الصغيرة. الخلافات التي تمحورت حول البلدية، ذات التسعة أعضاء، فاقت حجم البلدة نفسها التي لا تحتمل أثقالاً إضافية، إذ يكفيها همّ وجود معمل شركة «هولسيم» للترابة في نطاقها العقاري. الهمّ المحدق بها حالياً هو حلّ مجلسها البلدي، بعد تقديم نائب الرئيس ميشال نصر أول من أمس استقالته، وسط توقّعات باستقالة أعضاء آخرين، ما يهدّد بحلّ البلدية. أما رئيسها يوسف السمروط فقد كُفّت يده عن ممارسة مهامّه، منذ حوالي ثلاث سنوات، كونه قيد الملاحقة قضائياً في دعاوى تتعلّق بتزوير واختلاس المال العام.النزاع القضائي حول بلدية كفريا ليس حديثاً، بل يعود إلى عام 2011، عندما ادّعى عدد من المواطنين على رئيس بلديتها يوسف السمروط بتهم السرقة والتزوير والاختلاس. وبرغم مرور أكثر من عشر سنوات، ووصول عدد الدعاوى بحقّه إلى أربع، إلا أن الحكم النهائي لم يصدر في أيّ منها بعد. وفي الانتظار، سُجّلت محاولات عدة لإلغاء قرار كفّ يد السمروط، من قبل عدد من وزراء الداخلية والبلديات السابقين. آخر المحاولات «سُجّلت للوزير الحالي بسام مولوي الذي يستند إلى قرار صادر عن النيابة العامة المالية قبل نحو شهرين، قضى بحفظ أوراق إحدى الدعاوى» بحسب مصادر مطّلعة. فما هو مسار القضية؟

مذكّرة توقيف... واستردادها
في عام 2011، تقدّم اثنان من أبناء كفريا بشكوى أمام محافظ الشمال ناصيف قالوش، ضدّ السمروط الذي يشغل رئاسة البلدية منذ دورة عام 2004. الأخير اتُّهم بـ»هدر المال العام ومخالفة الأنظمة المتعلّقة بتنفيذ وتلزيم الأشغال وتوزيع الخدمات على أقاربه ومؤيديه». أحيلت الشكوى إلى لجنة تحقيق، ومما جاء في تقريرها أن السمروط «باع الأملاك العامّة واستهلك كمّيات مبالغاً فيها من المحروقات، ووظّف أقاربه ومؤيديه من دون اتّباع الأصول، وقدّم خدمات لصالح هولسيم». أُحيل تقرير اللجنة إلى النيابة العامة المالية، بالتزامن مع موافقة وزير الداخلية والبلديات الأسبق مروان شربل على ملاحقة السمروط. وبعد نحو عام، ادّعت النيابة عليه بـ»جرم اختلاس وهدر المال العام لتوفّر أدلّة وقرائن بحقّه». في مقابل ادّعاء النيابة العامّة الاستئنافيّة عليه عام 2013 وإصدار قاضي التحقيق في الشمال بلال وزنة مذكّرة توقيف بحقه عام 2014، سرعان ما استُردّت، واستُعيض عنها بكفالة مالية.
سرت شائعات في حينه بأن إلغاء مذكّرة التوقيف «جاء بناءً على ضغوط سياسية وحزبية قام بها تيار المستقبل والنائب السابق فريد مكاري الذي يُحسب السمروط عليهما». تلك الضغوط ظهرت لاحقاً في التنحي اللافت لعدد من القضاة بعد تسلّمهم القضية. وفي عام 2017، تسلّمت قاضي التحقيق في الشمال جوسلين متى القضية، بعد تنحي سلفها وزنة، وظنّت بالسمروط بـ»جنحة إساءة استعمال السلطة والإخلال بواجبات الوظيفة». وبخلاف وزنة، منعت عنه المحاكمة بجرم اختلاس وهدر المال العام. برغم أن القرار الظني مرتبط بادّعاء النيابة العامة الاستئنافية في الشمال عام 2013 بجرم الاختلاس.

كفّ يد السمروط
بنتيجة التطور القضائي، أصدر محافظ الشمال رمزي نهرا قراراً رقم 34/ب/2017، كفّ فيه يد السمروط عن رئاسة البلدية كونه قيد الملاحقة القضائية. لكنّ وزير الداخلية والبلديات الأسبق نهاد المشنوق عاجله بوثيقتي إحالة طلب فيهما من نهرا التريّث بتنفيذ قرار الكفّ، ثم أكّد على طلبه في الوثيقة الثانية.
توقّعات باستقالة أعضاء آخرين من البلدية ما يهدّد بحلّها


على نحو تدريجي، تدخّل عدد آخر من أبناء البلدة ورفعوا دعاوى جديدة ضد السمروط أمام القاضي المنفرد الجزائي في أميون. ويوضح أحد وكلاء المدّعين لـ»الأخبار» أن السمروط «ملاحق بأربع دعاوى، أُولاها دعوى الاختلاس أمام النيابة العامة الاستئنافية، وثانيتها دعوى تزوير أمام النيابة العامة المالية، وثالثتها دعوى رمي نفايات أمام القاضي المنفرد الجزائي في أميون، ورابعتها رمي مياه مبتذلة وردميات وتنفيعات أمام القاضي نفسه».

حفظ ملف التزوير
البطء في المسار القضائي بات واضحاً على مدار أكثر من عقد كامل. آخر المستجدّات القضائية كان صدور قرار من النيابة العامة المالية في دعوى التزوير قضى بـ»حفظ الملف». السمروط وجد في القرار الأخير إعلان براءته من التهم التي وُجّهت إليه. وفي حديث لـ»الأخبار» قال إن من حقه «طلب تعويض بسبب التشهير الذي طاوله، وبِكَفّ يده عن رئاسة البلدية منذ ثلاث سنوات». يعتدّ السمروط بالنيابة المالية التي حفظت الملف، وقبلها بقاضي التحقيق في الشمال الذي ظنّ به بالإهمال الوظيفي. «لم يتهمني القضاء بالاختلاس والتزوير برغم الضغوط التي يقوم بها نافذون من أبناء البلدة للقضاء عليّ بسبب خسارتهم في الانتخابات البلدية. ومع كلّ إمكاناتهم الهائلة، لم ينالوا. بدّهم يلاحقوني عالقبر؟». السمروط عاد واستدرك بأنه ينتظر حكم القضاء في الملفات كلّها. «لماذا نثير القضية في الإعلام وغيرها ولا ندع القضاء يشتغل شغله؟». وعن التدخلات السياسية والحزبية التي حظي بها، أكد السمروط أنه «مش واصل بالدولة وليس عندي مرجعية سياسية، وليس عندي علاقة لا مع المحافظ ولا مع وزير الداخلية الحالي».
لكنّ قرار النيابة المالية الأخير، الذي يصنّفه السمروط براءة له، اعتبره أحد وكلاء المدّعين أنه «تدبير إداري، ويمكن أن نطلب فتح الملف مجدداً». لافتاً إلى أن القرار استند إلى أنّ «المدعى عليه موضع ملاحقة أمام القاضي المنفرد الجزائي في أميون. وعليه، لا داعيَ للنظر في ملف واحد في محكمتين».

تنمية البلدة أولاً
استقالة نائب رئيس البلدية أعادت تحريك الخلافات في كفريا وتقسيمها بين فريقين، معارض للسمروط ومؤيد له. وائل شلق أحد المدّعين على السمروط نفى في حديث لـ»الأخبار» الاتهامات بالتسبّب بتفرقة أبناء البلدة الصغيرة لغايات انتخابية وعائلية. «نحن كمدعين، مستعدّون للتوقيع على تعهّد بعدم الترشح للانتخابات البلدية، ولا التقدّم إلى أي وظيفة في البلدية. كل ما نريده تنمية بلدتنا التي لا تتوافر فيها أدنى المقوّمات من إنارة وتعبيد طرقات رغم العائدات المالية الهائلة التي تصل إلى البلدية من وجود شركة الترابة في نطاقها والتي تصل إلى نحو مليون دولار سنوياً». شلق نفسه تقدّم عام 2019 بمراجعة أمام شورى الدولة ضدّ وزارة الداخلية والبلديات، التي طلبت التريّث بتنفيذ قرار كفّ يد السمروط. وفي حزيران 2020، أصدر مجلس شورى الدولة حكماً قضى فيه بإبطال قرار التريّث لكون السمروط ملاحقاً قضائياً، وعلّل قراره بأن «حجة القضية المقضيّة لها قوة تربو على قوة القانون ذاته، فهي عنوان الحقيقة مهما وُجه إليها من انتقادات، ويتحتّم على كل قاضٍ مهما كانت مرتبته في السلك القضائي أن يدافع عن قوة القضية المحكمة التي هي السند الأساسي للنظام القانوني».