زيارة سوق النبطية الشعبية، التي يتجاوز عمر مبناها الـ400 عام، من دون المرور بسوق اللحم تعدّ ناقصة بحسب ما يقول علي. ابن الـ60 سنة لا ينسى ذكرياته عن السوق الذي لم يتخلّف يوماً عن مرافقة والده إليها في موعد أسبوعي صبيحة كل نهار اثنين لشراء اللحم، مثله مثل كثيرين من أبناء منطقة النبطية وجوارها وصولاً إلى إقليم التفاح شمالاً والزوطرين جنوباً. فالسوق بشتى تفاصيلها أصبحت منذ تأسيسها عام 1952 جزءاً من يوميات أبناء النبطية وجوارها. تشغل السوق مساحة 800 متر مربع من مكان كان خاناً لبيع المواشي والجمال والحمير، وتحوّل تدريجاً إلى بسطات عشوائية، قبل أن تقوم جميعة المقاصد الإسلامية بشخص الشيخ أحمد رضا بشراء العقار وتنظيم العمل به ليُعرف لاحقاً بـ"سوق اللحم".
لم تسلم السوق من الاعتداءات الإسرائيلية، ففي عام 1982، إبّان الاجتياح، تعرّضت لقصف عنيف من قوات الاحتلال الإسرائيلي أسفر عن سقوط شهيدين من العاملين في السوق هما علي بدر الدين وسليمان منصور.

ترميم السوق
مع مرور السنوات، وافتتاح عدد كبير من الملاحم في القرى، تراجعت الحركة في السوق التي عانت من إهمال، فرض إعادة ترميمها في عام 2007. فالجدران المشوّهة والمياه الآسنة وانتشار القطط والكلاب الشاردة أسهمت بهجرة القصابين إلى أماكن بديلة. وفي محاولة لبلدية النبطية لتحفيز القصابين على العودة إلى السوق وإعادة الحياة إليها، أقدمت وبهبة من الدولة الفرنسية، على إعادة تأهيل سوق اللحم لتظهر بعدها بحلة جديدة تميّزت بأبواب موحدة للمحلات وإنشاء بنية تحتية جديدة للصرف الصحي. لكن هجرة القصابين استمرّت نحو إنشاء الملاحم في القرى المجاورة ما أسهم في أفول نجم "سوق اللحم" ولم تعد مقصداً إلا لقلّة من الناس.
تأسّست السوق عام 1952 وكانت مقصداً لكلّ قرى الجوار


في عام 2019 ، قامت جمعية المقاصد بجدولة عقود الإيجار مع المستأجرين الجدد ورفعها، وبقي عدد كبير من المستأجرين القدامى يسدّدون قيمة إيجارهم بأسعار زهيدة، فبعض المحلات لا يزيد إيجارها اليوم على 200 ألف ليرة في السنة. هذا ما يؤكده ناصر دقماق، معتبراً أنه محظوظ أكثر من غيره، فهو مستأجر قديم ولا يزال يدفع على السعر القديم ما يساعده على الاستمرار، رغم تأثر مصلحته بارتفاع الدولار وانهيار العملة الوطنية، ويستطرد "كيلو الفحم كان سعره ألف ليرة، اليوم بخمسين ألفاً، والبصل كان سعره 500 وصار اليوم 15 ألفاً، حتى أكياس النايلون ارتفع سعرها. وحده الإيجار رحمة".

سوق شبه مهجورة
مع بداية حراك 17 تشرين، نهاية عام 2019، دخل لبنان مرحلة جديدة من تردّي الأوضاع الاقتصادية. وترافق ذلك مع أزمة صحية عالمية، كلّها أسباب أدّت إلى تراجع العمل بسوق اللحم بشكل كبير، حتى اقتصر على عدد من القصابين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة.
"الملاحم صارت منتشرة في كلّ مكان" يقول علي ظاهر (70 سنة) في معرض حديثه عن أسباب تراجع الإقبال على سوق اللحم. لكن السبب الأبرز الآن هو الأزمة الاقتصادية وانعكاساتها على حياة المواطنين، إذ تبدّلت أولوياتهم وحاجاتهم، "من كان يشتري لحمة بالكيلو، صار يشتري بالأوقية". يستذكر أياماً خلت كانت الحركة في السوق خلالها "قوية وكان المقصد لجميع المواطنين من مجمل القرى المحيطة بالنبطية".
أربعون سنة أمضاها مالك حمزة (74 سنة) في ملحمته التي ورثها عن والده، عايش خلالها كلّ الأزمات، لكن "لم يمرّ على السوق مثل هذه الأيام السوداء". يردّد بصوت مرتفع "لا بيع ولا شرا... الدولار مش عم ينزل والغلا كاوينا... الكهربا ما عم تجي والاشتراك نار".
تبدّل المشهد في سوق اللحم، لم تعد هذه السوق التي تعج بالناس بل أصبحت شبه مهجورة إلا من بعض العابرين. أما عن تغيير مشهدها بالكامل، سواء من خلال الترميم والتوسيع أو حتى نقلها إلى مكان آخر كما يتردّد، فينفي مصدر في جمعية المقاصد المالكة للسوق لـ"الأخبار" وجود أي نيّة لأي تعديل على سوق اللحم، أو أي مخطط لنقلها، في الوقت الراهن، مؤكداً أنها باقية على حالها.