طاولت الأزمة الاقتصادية كلّ مكوّنات النظام التعليمي من مدارس ومعلّمين وتلامذة وأولياء أمور. المدارس وقعت تحت نفقات تشغيلية ضخمة، وهجرة كفاءاتها التعليمية، والمعلمون الباقون يعيشون في فقر مدقع، والتلامذة يعانون من تعلّم رديء ومتقطّع ومبتور، والأهالي يواجهون أوضاعاً معيشية معقّدة لن تمكنهم من توفير تعليم نوعي لأولادهم، كما قبل عام 2019، سواء لناحية إلحاقهم بمدارس جيدة بسبب ارتفاع الأقساط، أو لجهة توفير مستلزمات التعليم من وسائل تكنولوجية وكتب وقرطاسية ونقل مدرسي.أما المدرسة الرسمية، التي بدأت تستعيد عافيتها ودورها الريادي في التعليم خلال السنوات الأخيرة، فلم يكن ينقصها سوى هذه الأزمة الاقتصادية حتى تقضي على ما تبقّى من مقوّمات لديها، وكأنه لا يكفيها التآمر التاريخي للسلطة السياسية التي أدارت لها الظهر عن سوء نية، ولم ترد لمشروعها الوطني النجاح. فالممارسات التي قامت بها السلطات المتعاقبة جعلت من المدرسة الرسمية بؤرة للمحسوبيات والزبائنية، إما من خلال تعيينات مشبوهة للعديد من مديري المدارس والثانويات غير الأكْفاء، أو من خلال المناقلات العشوائية للمعلمين، وفتح باب التعاقد الوظيفي العشوائي أمام جيش من المعلمين، وتوقيف توظيف الكفاءات عبر مجلس الخدمة المدنية، وتكريس بدعة الانتداب الوظيفي لتحقيق التقاعد المبكر عن العمل لفئة من المحظيين، وترك صناديق المدارس فارغة، وعدم توفير المباني المدرسية الملائمة ومستلزماتها في كثير من المناطق، وتشريع الفوضى والصراعات بين الأجهزة التربوية المختلفة (كلية التربية، المركز التربوي للبحوث والإنماء، مديرية الإرشاد والتوجيه والتفتيش التربوي) المنوط بها مسؤولية المدرسة الرسمية وتطويرها، وإضعاف الرقابة عليها من خلال تقويض دور التفتيش وإهمال توصياته، ودعم المدارس الخاصة غير المجانية بحجّة حرية التعليم، في وجه التعليم الرسمي.
وإذا كان البعض يعوّل على ازدياد النزوح إلى التعليم الرسمي هذا العام في ظل الأزمة الاقتصادية الصعبة التي جعلت نصف اللبنانيين دون خط الفقر، فإن المؤشرات توحي بهجرة معكوسة في ظل إقفال المدارس الرسمية، إذ تشهد المدارس الخاصة موجة تسجيل كبيرة تكاد تفوق القدرة الاستيعابية لكثير منها، بسبب توجّس الأهالي من خسارة أولادهم لعام دراسي فعلي، بعدما خسروا عامين دراسيين سابقين بسبب الانقطاع عن التعليم الحضوري ورداءة التعليم عن بعد وإخفاق وزارة التربية في معالجة المشكلات واتخاذ القرارات الحكيمة بشأن المدرسة الرسمية.
لذلك بدأ يطفو على سطح المشهد التربوي كثير من الأسئلة الموجّهة إلى روابط الأساتذة والمعلمين واتهامها بالقضاء على التعليم الرسمي. ومن جملة الأسئلة: كيف تقبل الروابط والمعلمون أن يبقى تلامذة المدرسة الرسمية في بيوتهم، بينما أقرانهم في التعليم الخاص التحقوا بمدارسهم منذ شهر َويتعلمون بشكل منتظم؟ هل ظروف معلّمي المدارس الخاصة أفضل حالاً من معلمي المدارس الرسمية؟ هل أزمة الوقود تطاول معلمي المدارس الرسمية فقط؟ كيف يوافق كثير من معلمي المدارس الرسمية على إرسال أبنائهم إلى المدارس الخاصة من خلال منح مالية مدفوعة من الدولة، ويرفضون تعليم تلامذة المدرسة الرسمية؟ هل من العدل أن يتقاضى معلم التعليم الرسمي راتبه كاملاً وهو منقطع عن الحضور إلى العمل، بينما زميله المتعاقد يحتاج إلى تعليم حصصه ليوفر أقل مستلزمات العيش؟ كيف يقبل الكثير من معلمي المدارس الرسمية أن يستأنفوا تعليمهم في المدارس الخاصة وينقطعوا عن التعليم في مدارسهم الرسمية؟ وهل الأزمة تطاول معلمي المدرسة الرسمية فقط، أم جميع الموظفين في القطاعين العام والخاص؟ وهل المطلوب دائماً أن يبقى تلميذ المدرسة الرسمية ورقة الضغط الوحيدة في وجه السلطة لتحقيق المطالب؟ وإذا كانت الدولة غير قادرة في المدى المنظور على تصحيح الأجور وتوفير أموال بالعملة الأجنبية، هل يجب أن نترك آلاف التلامذة في منازلهم ليزدادوا فقراً تعليمياً إلى جانب فقرهم المعيشي؟
مثل هذه الأسئلة مشروعة في وطن يتيح حرية الرأي، والرد عليها حق لأصحابها، فالمعلمون يعيشون ظروفاً استثنائية، وهم أكثر من تحمّل تداعيات القرارات العشوائية الصادرة عن السلطة السياسية، وكثير من هؤلاء يرون أنهم يقدمون عبر قرار مقاطعة العام الدراسي، دروساً لتلامذتهم في كيفية المطالبة بالحقوق وممارسة المواطنية.
إن بقاء المدرسة الرسمية صرحاً وطنياً وملاذاً للفقراء مسؤولية الجميع، من وزارة تربية وروابط ومعلمين. فالوزارة مطالبة ببذل الجهود الممكنة لحفظ كرامة المعلمين وأن توفّر لهم مقوّمات الاستمرار في العمل والعيش الكريم، وأن تكون صادقة في وعودها، وعادلة في مقاربة الموضوع التربوي بين القطاعين العام والخاص، ولا سيما في ما يتعلق بطريقة توزيع الهبات الدولية. أما الروابط التعليمية، ومن خلفها المعلمون، فينبغي أن يكونوا أكثر انفتاحاً على الحلول الممكنة في ضوء الإمكانات والموارد المتوافرة لدى الدولة والمعلمين وأولياء الأمور، وبما يحقق المصلحة العامة، ويؤسس لمراحل يُبنى عليها لتحسين الأوضاع بما يترافق مع الانتعاش العام.
المدرسة الرسمية حاجة اجتماعية واقتصادية للبنانيين، وهي الهُوية التربوية الأولى للعبور إلى جمهورية المواطنة. لذا فإن قطع الطريق أمام المحاولات المفتعلة والمشبوهة لتدميرها وإنهائها، من خصخصة ووصفات جاهزة من جهات دولية مانحة، أصبح واجباً وطنياً على كل الحريصين عليها لإنقاذها... وإلا سنكون مشاركين فعليين في اغتيالها.
*باحث تربوي