منذ أن بدأ السباق بين غلاء المعيشة وتصحيح الأجور في بداية الستينيات من القرن الماضي، لم يحدث أن فصل الاتحاد العمالي العام، ولا الدولة أيضاً، تصحيح الأجر في القطاعين العام والخاص أحدهما عن الآخر. وتخلو بيانات الاتحاد العمالي طيلة الحقبة الماضية من أي فصل من هذا النوع. ولأن السلسلة تقع في هذا الإطار تحديداً، أي تصحيح الأجور في القطاع العام أسوة بالخاص، وعلى قاعدة غلاء المعيشة، فقد بادرت هيئة التنسيق النقابية في أواسط عام 2011، وبعد سنوات من القطيعة مع الاتحاد العمالي العام، إلى مد يد التعاون لخوض المواجهة بشكل مشترك. وقد تم التعهد العلني في حينه بين قيادات الهيئة والاتحاد العمالي العام بأن لا ينفرد أي طرف منهما باتفاق مع السلطة وأصحاب العمل حول تصحيح الأجر تحت أي طائل. ومن المفيد التذكير بأنه في تلك الفترة ترأس وزارة العمل الوزير شربل نحاس، وطرح مقاربة إصلاحية متعددة المستويات تعتمد مفهوم «الأجر الاجتماعي» لتصحيح الأجر وتقضي بضم بدل النقل الى أصل الراتب، وتعميم التغطية الصحية لجميع اللبنانيين المقيمين بتمويل من الضريبة على الريوع المالية والعقارية، ودعم خلق الوظائف الجديدة للوافدين الجدد الى سوق العمل.
هذه المقاربة استنفرت القوى السياسية وأصحاب العمل، بما في ذلك الطرف الذي عيّن نحاس وزيراً في الحكومة. وفي جوّ من الضغوط والمناورات، أقيل وزير العمل عملياً، وانفرد الاتحاد العمالي العام، بأوامر من مرجعيته السياسية، بـ«تسوية» سمّيت «اتفاق بعبدا»، ووقعت بين قيادة الاتحاد وهيئات أصحاب العمل من دون العودة الى هيئة التنسيق والى هياكل الاتحاد العمالي العام نفسه من هيئة مكتب المجلس التنفيذي الى مجلس المندوبين الملغى منذ أكثر من 20 عاماً.
سمّى الاتحاد العمالي العام وهيئات أصحاب العمل اتفاقهم «بالتاريخي والرضائي»، في حين أنه لم يكن سوى اتفاق إذعان حيث نص على أقل ممّا طرحه وزير العمل حينها، وأقرّته الحكومة في إحدى جلساتها، على الحد الأدنى للأجور وعلى صعيد بدل النقل، مع وعود بالتصحيح السنوي للأجور ربطاً بمؤشر الغلاء ودفع المنح المدرسية وإصلاح الضمان الاجتماعي، تلك الوعود التي ثبت كذبها.
لم تقتصر المسألة على الاتفاق ــ الفضيحة، بل توّج بشكوى مشتركة بين الاتحاد العمالي العام وهيئات أصحاب العمل لدى منظمة العمل الدولية «تدين» تدخل وزير العمل شربل نحاس في شؤون العمال وأصحاب العمل الداخلية. وقد كان أحد الأثمان منح وسام العمل لرئيس الاتحاد غسان غصن ولوحة سيارة مميزة للأمين العام سعد الدين صقر. وفي المقابل أيضاً، طرح غسان غصن معادلة جديدة في فلسفة الاتحاد العمالي العام بإعلانه أن زمن الصراع الطبقي قد انتهى مع انتهاء الشيوعية ونحن اليوم في عصر الحوار الاجتماعي بين العمل وأصحاب العمل، مضيفاً أن عمل الاتحاد يستند إلى مقاربة «خذ وطالب»!
كل ما تريده
قيادة الاتحاد هو أن ترتكب الهيئة الخيانة نفسها

راهن الاطراف الثلاثة (الحكومة والاتحاد العمالي والهيئات الاقتصادية) على أن هيئة التنسيق المستفردة في مطالبها وتحركها سوف تصل الى الجدار المسدود، وبالتالي ستضطر إلى الإذعان، خصوصاً أن تركيبة الهيئة من الناحية الحزبية والطائفية لا تختلف كثيراًَ عن الاتحاد العمالي العام. وبالتالي، فإن المرجعيات السياسية التي أملت على الاتحاد موقفه ستنجح في الوصول الى النتيجة نفسها مع هيئة التنسيق. إلا أن الهيئة قررت خوض معركتها على الرغم من الضرر الذي تسبب به خيار الاتحاد، واستطاعت تعبئة قواعدها، ليس فقط بين أوساط المعلمين، بل وبشكل غير مسبوق بين موظفي الادارة العامة الذين نفذوا خلال هذه الفترة أول إضراب عام في تاريخ الدولة اللبنانية، كاسرين بذلك قانون حظر الإضراب في الادارة الرسمية. ولعلّ فشل الرهان يكمن ببساطة في أن الاتحاد العام كان يعود، كلما تعقدت الأمور، الى المرجعية السياسية التي عيّنت أعضاء قيادته في مواقعهم لاتخاذ الموقف والقرار، في حين أن هيئة التنسيق كانت تعود كل مرّة الى جمعياتها العمومية لإقرار التوصيات المقترحة. هذا هو ما تحاول المرجعيات السياسية تعديله. وهنا بالتحديد بدأت تحرّكات هيئة التنسيق تلتف حول رقبة قيادة الاتحاد العمالي العام، التي تسعى لنفي تهمة خيانة من تدّعي تمثيلهم لحماية مصالح أصحاب العمل والقوى السياسية المهيمنة.
إذا كانت السلسلة وأصحابها في مأزق حتى الآن، فإن قيادة الاتحاد العمالي العام في محنة حقيقية، حيث إن المتابع لبياناتها التي ازدهرت أخيراً يلمس بوضوح أن الاشارة الى أحقية مطالب هيئة التنسيق تتم بخجل، في حين ينصب التركيز الشديد على رفض الضرائب والرسوم لتمويل السلسلة. الغريب أن هذه المواقف لا تتخذ دفاعاً عن ذوي الدخل المحدود بل في سياق الحملة الثلاثية المشتركة لتحميل الهيئة المسؤولية عن المزيد من الضرائب والأعباء على المواطنين، من دون أن ترشق جمعية أصحاب المصارف وأركان السلطة ولو بوردة! فهذه القيادة تخشى بصورة مرعبة أن تتمكن هيئة التنسيق من تحقيق مكاسب جدية نتيجة لصمودها، وهي، أي قيادة الاتحاد، تأمل بحصول أحد الأمرين: إما تسوية ــ اتفاق غير مبدئي بوصاية ورعاية حزبية معلنة تنجرّ اليها الهيئة فتبرر لقيادة الاتحاد عقدها اتفاق الإذعان الذي أبرمته مع هيئات أصحاب العمل برعاية الحكومة في عام 2012، وتعلن عند ذلك أن هذا هو الممكن في العمل النقابي المطلبي، وأن اتفاق الاتحاد في حينه كان انتصاراً، بدليل أن هيئة التنسيق لم تصل الى اتفاق أفضل منه، بالرغم من شعاراتها الثورية ورؤوس قياداتها الحامية، فتتساوى بذلك مع الاتحاد في الانتصار أو في الخيانة. وإما ألا تتوصل هيئة التنسيق الى أي نتيجة فتنكسر وينفرط عقدها وتعلن قيادة الاتحاد عند ذلك أن تلك هي نتيجة المزايدة والمكابرة وعدم القبول بما عرض من تسويات، وهي أيضًا نتيجة الجنوح بالاستقلالية عن القوى السياسية الفاعلة، وبالتالي عن رؤية الاتحاد العمالي العام.
في بحثه عن خشبة خلاص، يحاول الاتحاد العمالي العام ركوب موجة التحرّكات المطلبية لعله يستعيد دوراً يبقيه على قيد الحياة، لكن هيئة التنسيق النقابية عرّت، في صمودها وقدرتها على التعبئة والحشد، كل مواقفه، وأفرغت حججه المتهافتة من مضمونها الرث، وأكدت بما لا يدع مكاناً للشك أن بناء حركة نقابية مستقلة وديمقراطية أمر ممكن مع وجود قيادات نقابية صادقة وشفافة قادرة على التعبير الفعلي عن هواجس وتطلعات العمال والموظفين المهددين بفعل خيارات اقتصادية واجتماعية منحازة لمصلحة أصحاب المصارف والتجار والمضاربين العقاريين.
أياً تكن النهايات التي ستصل اليها سلسلة الرتب والرواتب بقيادة هيئة التنسيق، فإن مخاضاً حقيقياً، أبطاله موظفو إدارات الدولة والمعلمون، سيسفر عن حالة نقابية جديدة واعدة، ستمكن جميع الأجراء في لبنان من العمل نحو مستقبل أفضل، طبعاً بعد إنزال جثة الاتحاد العمالي العام عن منصة إعدامها ودفنها، «فما لجرح بميّت إيلام».