شكّلت المعركة الأخيرة حول التجديد لعمل شركات الترابة في شكا والنتائج الكارثية التي انتهت إليها دليلاً جديداً على التخبّط في إدارة هذا الملف، شأنه شأن بقية الملفات.فمع تسلّم وزير البيئة دميانوس قطار مهامّه، وإعادة الصلاحيات للمدير العام للوزارة برج هتجيان بعدما جمّد الوزراء السابقون مهامه، اجتهد الأخير بكتاب من خمس صفحات إلى الوزير بضرورة إعادة السماح بعمل مقالع شركات الترابة في منطقة شكا تحت عنوان «الاستثمار التأهيلي»، من دون الرجوع إلى المجلس الوطني للمقالع. علماً أن المجلس هو من يفترض أن يمنح رخص المقالع التي تحتاج إليها هذه الشركات أسوة ببقية المقالع على الأرض اللبنانية.
وبسبب الخلاف بين المدير العام والمستشارين والمصلحة المختصة في الوزارة، حول صوابية هذا الإجراء، قرّر الوزير - بعد تردّد - مراسلة وزارة العدل (24/7/2020) طالباً رأي الهيئة الاستشارية العليا حول المواضيع التالية: هل يجوز السماح باستئناف استثمار مقالع وشركات الترابة القائمة والعاملة أو يقتضي اللجوء إلى استثمار تأهيلي كما طُرح في مشروع المرسوم الذي وافق عليه مجلس الوزراء في 7/9/2019 ؟ وهل يمكن الاكتفاء بالتأهيل فقط كما ينص مرسوم تنظيم المقالع والكسارات الرقم 8803 الصادر عام 2002 وتعديلاته؟ وما هو المسوّغ القانوني الذي يقتضي بموجبه الإجازة بالاستثمار أو الاستثمار التأهيلي أو التأهيل في مقالع شركات الترابة القائمة والعاملة؟ وهل يمكن أن يكون المسوّغ القانوني مجتزأ بمعنى أنه يلحظ موضوع شركات الترابة دون غيرها من المقالع؟ وفي جميع الأحوال تحديد الجهة المناط بها البتّ في جميع ما تقدم طرحه من استفسارات؟
ورغم تأخر الجواب على محاولة فصل ملف شركات الترابة عن ملف إدارة هذا القطاع، جاء جواب الهيئة الاستشارية العليا بتاريخ 23/2/2021 ليؤكد المؤكد، وهو أن مقالع الشركات تشملها المراسيم التنظيمية النافذة ذات الصلة. إذ أكّدت الهيئة المؤلفة من القضاة رلى شفيق جدايل (المدير العام لوزارة العدل) وهيلانة إسكندر (رئيسة هيئة القضايا) وجويل فواز (رئيسة هيئة التشريع والاستشارات) وندى دكروب (رئيسة معهد الدروس القضائية) «أن مشروع المرسوم الذي وافق عليه مجلس الوزراء بقراره الرقم 1 بتاريخ 17/9/2019 لا يمكن تطبيقه بعد، طالما أنه لم يدخل حيز التنفيذ حتى الآن ولم يقترن بخريطة تصنيف للمناطق والمواقع، وهي الخريطة اللازمة لتطبيقه». وبالتالي، استنتجت الهيئة «أن المرسوم الرقم 8803/2002 لا يزال واجب التطبيق مع تعديلاته».
وينص المرسوم على المناطق التي تتضمّن مجموعة من المقالع المهجورة أو المتوقفة عن العمل أو العاملة بشكل غير قانوني بغية إعادة تأهيلها، مع حفظ حقوق الإدارة تجاه أصحاب هذه المقالع، وبينها شركات الترابة. وتحظر المادة العاشرة من المرسوم معاودة الاستثمار في المقالع في حال سقوط الترخيص بسبب عدم مباشرة الأعمال في مهلة أقصاها سنة من تاريخ إعطائه، أو في حال التوقف عن الاستثمار لمدة تتجاوز السنة دون عذر يقدره المجلس الوطني للمقالع. ويمكن السماح باستئناف استثمار المقالع العائدة لشركات الترابة القائمة والعاملة بعد التأكد من توافر الشروط، وأولها أن يكون المستثمر قد قام بتأهيل المساحات التي أنهى العمل بها في المقلع، وعرض خطة لتأهيل الأجزاء التي لا يزال العمل جارياً فيها، وأن يكون قد ضم إلى طلبه تدابير ترتيب الموقع وإعادة تأهيله عند انتهاء العمل والتدابير اللازمة لاستعمال أتربة التغطية ومراحل الاستثمار ومراحل التأهيل التدريجي للمقلع ومواقع جمع المواد المستخرجة وأتربة التغطية، وعند الاقتضاء تعيين السواتر المشجرة وما يلزم لحجب التشويه، ووجهة الاستعمال بعد التأهيل، والخرائط التفصيلية، ومقاطع تبين الوضع النهائي للموقع بعد التأهيل.
الهيئة الاستشارية العليا: على من يحمل ترخيصاً سابقاً بقرار مخالف الحصول على ترخيص جديد


وأكّد القضاة أن هذا المرسوم هو المسوّغ القانوني الذي يقتضي بموجبه الإجازة بالاستثمار. أما المرجع الذي يعود إليه البتّ في أمر تجديد الترخيص فيتمثل بشخص المحافظ بعد موافقة المجلس الوطني للمقالع. ويتوجب، بالتالي، على من يحمل ترخيصاً سابقاً بقرار مخالف الحصول على ترخيص جديد.
هكذا أعادت هذه الاستشارة الموضوع إلى النقطة الصفر، أي إلى ما قبل صدور المرسوم الذي أعدّه وزير البيئة السابق فادي جريصاتي ووافق عليه مجلس الوزراء (17/9/2019)، من دون الموافقة على خارطة المواقع المسموح الاستثمار فيها!
وقد كان معلوماً أن عدم شمول المرسوم بخارطة المواقع، يعني أن التعديلات المقترحة على المرسوم السابق لا معنى لها. الا أن جريصاتي لم يعقد مؤتمراً صحافياً ليشرح ماذا حصل ومن لم يوافق ولماذا. وقد فُهم من هذا الصمت، الذي يعبر عن قمة الفشل في إدارة هذا الملف - القطاع، أسوة بوزراء البيئة السابقين الذين استفاد معظمهم من حالة الفوضى، بشكل أو بآخر، أن المعترضين على خرائط المواقع المدرجة في المرسوم هم من الأقوياء!
في الوقت الضائع الذي قارب سبعة أشهر بين طلب وزير البيئة الاستشارة (24/7/2020) وصدورها (23/2/2021)، اجتمعت في السراي الحكومي لجنة برئاسة مستشار رئيس الحكومة الياس عساف، اقترحت إعطاء الشركات في شكا مهلة زمنية على مرحلتين، ثلاثة أشهر لكل مرحلة، يتم فيها استثمار وتأهيل مئة ألف متر بإشراف لجنة مؤلفة من الوزارات المعنية والشركات والمجتمع المدني والأكاديمي والإدارات المحلية. وقد كانت أعمال هذه اللجنة مضيعة للوقت، نظراً إلى غياب البحث الاستراتيجي عنها، ولأن المراسيم التنظيمية ذات الصلة لا تمنحها حق التجريب أو اللجوء إلى بدعة «الاستثمار التأهيلي». كما دخل وزير الصناعة عماد حب الله على الخط مهدداً بداية بفتح باب الاستيراد، ومساوماً في النهاية لإعادة العمل مع خفض الأسعار.
لم يكن موقف وزير الصناعة مستغرباً كونه مؤتمناً على عمل القطاع ضمن القوانين المرعية الإجراء. إلا أن المستغرب جداً هو موقف المدير العام الدائم للبيئة ووزراء البيئة المتعاقبين الذين زايدوا على وزراء الصناعة في انحيازهم للمصالح الصغيرة قياساً بمصالح الطبيعة والخزينة. إذ تعمّدوا، جميعاً، عدم وضع استراتيجية شاملة للتنمية المستدامة في لبنان، واستراتيجيات خاصة لكل ملف من ملفات البيئة (بينها هذا القطاع المهم بيئياً واقتصادياً)، مع مشروع قانون شامل وحديث يغطي كل ثغرات المراسيم التنظيمية التي طالما تلاعب بها الوزراء المتعاقبون والمدير العام من أجل التنفيعات هنا وإرضاء أحزاب السلطة هناك، كلّ في منطقته، نظراً إلى المساهمة الدسمة في التمويل التي يقدمها هذا القطاع لهم على حساب مصلحة الخزينة!



ضياع 5 مليارات دولار!
بحسب المعطيات، أنجزت مديرية الشؤون الجغرافية في الجيش، حتى الآن، مسح ثلثَي المواقع المطلوبة وفق المسح الطوبوغرافي لكلّ المقالع والكسارات ومحافر الرمل على الأراضي اللبنانية بتكليف من مجلس الوزراء (3/7/2020 بموجب المرسوم الرقم 6569)، على أن تنهي عملها نهائياً قبل بداية الصيف. وتتوقّع المصادر أن يؤمّن هذا المسح، الذي تأخر اتخاذ القرار بشأنه عشرات السنوات بشكل مقصود أيضاً، مداخيل مهمة لخزينة الدولة من متهرّبي دفع الضرائب والرسوم والغرامات. إذ أن التقديرات الأولية تتحدث عن 1356 مقلعاً وكسارة ومحفار رمل، على مساحة مشوّهة قد تبلغ 65 مليون متر مربع، استُخرج منها نحو 1،6 مليار متر مكعب من المواد (صخور وبحص ورمل) بإنتاج يُقدر بما يزيد على 24 مليار دولار، وأرباح لا تقل عن 80% من حجم الإنتاج، أي ما يقارب 18 مليار دولار، على افتراض أن السعر الوسطي للمتر المكعب يقارب 15 دولاراً. وإذا حسبنا الرسم المالي (دولار/ م3) والرسم البلدي (بين 10 و15 دولاراً على المتر المربع) والضريبة على القيمة المضافة (11%) والضريبة على أرباح الشركات (17%)... يمكن أن يكون حجم ما خسرته الخزينة أكثر من خمسة مليارات دولار!




اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا