حتى في بيان نعيها، لم تغفل عائلة نقية بري عن التذكير بقضية فقد ثلاثة من أولادها في أيلول من عام 1982. في خانة الأبناء، عدّدوا أولادها الكبار على التوالي، حسيب وموسى ومحمد، لافتين إلى أنهم لا يزالون مفقودين منذ 39 عاماً في ذروة الحرب الأهلية، عقب اغتيال بشير الجميل.
تهربت أم حسيب طويلاً من الموت. «لن أموت قبل أن أعرف مصير أولادي» كما كانت تقول. فعلت ما بوسعها في العامين الأخيرين لتقاوم الغياب. ارتمت في فراشها عاجزة، تتقاذفها عملية جراحية من هنا وجلسات علاج من هناك. لكنها كلما اقتربت من الموت، كانت تذكر أبناءها السبعة الآخرين بوصيتها الدائمة: «لا تنسوا أشقاءكم. لا تغفلوا عن قضيتهم».

باكراً، ابتلت العائلة بذاك المصاب. قرويان نزلا إلى بيروت من بلدة الحميري الصغيرة في قضاء صور، بحثاً عن معيشة أفضل. حرص الوالد الذي عمل قصاباً على تعليم أولاده حتى ينالوا شهادات عالية. وضعهم على أول الطريق وأولهم بواكيرهم، حسيب وموسى ومحمد.


صورة ام حسيب بري


في تلك الحقبة السوداء من التطهير الطائفي والمذهبي، ترك الفتيان الثلاثة منزلهم في بيروت للعودة إلى مسقط رأسهم، هرباً من الأحداث الأمنية، بناء على نصيحة والديهم. قبل بداية عامهم الدراسي في أحد المعاهد، استقلوا سيارة مع ثلاثة شبان آخرين. وبحسب المعلومات التي وصلت لاحقاً إلى العائلة، فقد خُطفوا من قِبل حاجز مسلح للقوات اللبنانية المتعاملة مع العدو الإسرائيلي الذي كان قد اجتاح الجنوب حتى بيروت.

كسائر أهالي المفقودين، لم يترك أبو حسيب وأم حسيب باباً إلا وطرقاه لمعرفة مصير أبنائهما. خضعا لابتزازات البعض مادياً وصدّقا أكاذيب آخرين ليعلّلا نفسيهما بالأمل. يأسهما بعد مرور سنوات طويلة دفعهما إلى الاستعانة بالعرافين. لم يستطِع الوالدان استعادة أبنائهما الثلاثة. لكن أبناءهما الآخرين أطلقوا على عدد من أولادهم أسماء حسيب وموسى ومحمد، فعادت أسماؤهم لتحيا في أرواح جديدة. طوال سنوات الفجيعة المستمرة، اعتزلت أم حسيب الفرح، لكنها لم تمنعه عن أهل بيتها. رفضت حضور حفلات زفاف أولادها الآخرين، لكنها أصرت على أن يفرحوا وألا يقضي المصاب على حقهم بالعيش كما يحلو لهم.

نقية بري أسلمت روحها الثلاثاء الماضي بعد 39 عاماً من محاولة الوصول إلى حقها بمعرفة مصير أبنائها. رحلت من دون أن تعرف مثلها مثل أم أحمد الشرقاوي وأم أحمد الهرباوي وأوديت سالم (أم ريشار وكريستين) ونايفة نجار.... وفاة أم حسيب متأثرة بالحزن واليأس، أوقد حزن أقرانها من أهالي المفقودين.

رئيسة لجنة أهالي المفقودين والمخطوفين في الحرب الأهلية، وداد حلواني، رثت أم حسيب: «رفيقة المسيرة العسيرة التي قتلها ذلك السلم المزعوم»، ووعدتها «بأننا لم ولن نساوم على حقّك وحقّنا بمعرفة مصير أحبائنا أحياءً أو أمواتاً». أما مريم السعيدي، أم المفقود ماهر قصير، فقد كتبت في رثاء زميلتها: «مجرم كل من يشارك المجرمين والخاطفين بإخفاء الحقيقة وكشف المصير».