لا يُطلق تعبير «ما بعد» على أمر معروف. هذا التعبير مخصّص، منذ استخداماته الأولى، للتعبير عن مستقبل مجهول. إلّا أنّه يحمل دلالات واستشرافات لا تخلو من الواقعية. إذ يمكن لبعض المسارات أن تكشف عن النهايات قبل وقوعها. وبالتالي، يمكن توقّع ما بعد أيّ مسار أو اتجاه، ما يساهم في خروج التعريف من علم الغيب إلى علم الافتراضات العلمية المعقولة.من هذا المنطق يمكن الادّعاء بإمكانية الحديث عن «ما بعد» أزمة «كورونا»، أو على الأقل عن مميزات هذه المرحلة والتغيرات التي تركتها أو يمكن أن تتركها في المشهد العام، وفي حياتنا الخاصة والعامة.
لعل الأمر الأول الذي تغيّر بعد «كورونا» هو التواصل (الإلكتروني والاجتماعي). فسِمة العصر هذه هي أول ما تم تحريمه، كمدخل رئيسي للوقاية عبر إجراءات العزل والحجر في زمن التواصل!
التغير الكبير طال، أيضاً، سمة أساسية أخرى من سمات عصرنا، وهي سرعة الانتقال والاتصال. أليس غريباً أن تصبح سرعة انتقال الأمراض متواصلة ومتزامنة مع سرعة انتقال المعلومات والأشخاص والبضائع؟! وماذا لو أصبحت سرعة انتقال الفيروسات وتطوّرها أسرع من اللقاحات والعلاجات وسرعة العدوى أسرع من الإجراءات الاستشفائية وسرعة الموت أسرع وأسرع؟!
من التأثيرات المستجدّة أيضاً، أثناء «كورونا» وما بعدها، عودة الشكّ للتغلب على اليقين. فهذه الهشاشة العالمية في أنظمتها البحثية والعلمية والطبية، وهذا التضارب والتناقض والتغيّر السريع في المعطيات والمعلومات والتحليلات، أعادا الاعتبار إلى قيمة الشك والتواضع العلمي وغير العلمي.
كما ذكّرت الأزمة، من خلال لايقينياتها، بالتعريف الأصلي للحقائق العلمية بأنها تلك القابلة للنقض. وحرّكت، من خلال شموليتها العالمية، الإحساس بضرورة إعادة تعريف العولمة. فالعالم لم يكن واحداً ومعولماً انطلاقاً من قيم عالمية مشتركة ولأسباب فكرية أو إنسانية محدّدة، بل لأسباب تجارية فرضتها طبيعة اقتصاد السوق وقواعد المنافسة العالمية… ولم يكن ما حصل إلا نتيجتها. ليس هذا فحسب، فقد تسبّبت الخصوصيات التجارية السرية وإخفاء المعلومات حول الوباء وعدم التعاون في نقلها في مزيد من التأزم والتأخر في إيجاد الحلول، ما رفع كلفة المعالجة أضعافاً مضاعفة، إضافة إلى رفع المخاطر بشكل مدمّر، تفوق مفاعيله أسلحة التدمير الشامل المعروفة.
وهكذا، كان يمكن لهذه الجائحة أن تعيد الاعتبار لأولوية التعاون على التنافس، كأوّل إجراء مضاد لاقتصاد السوق ومتطلّباته وقواعده، وكذلك إعادة الاعتبار للحياة البرية ما قبل الزراعية، والقيام بمراجعة لطرق التديّن، وإعادة احترام الحدود بين الأنواع، وإعادة النظر في السياسات الصحّية بشكل جذري والعودة إلى نظم قديمة أكثر أماناً، تقوم على منح الثقافة الطبية والوقاية الأولوية على تطوير التكنولوجيا ودعم الأبحاث الطبية والتقنية. فقد ظهر جلياً أن مشكلتنا ليست في نقص المعدات والتجهيزات كما ادّعى تجار التكنولوجيا الطبية، ولا في نقص اللقاحات والأدوية، كما تروّج الشركات ووكلاؤها، بل في نقص المناعة بالأساس... وهذا الأخير ناجم عن خلق عادات غير حميدة في حياتنا اليومية.
ومن الدروس المستفادة، أيضاً، أن الفيروسات متغيّرة ومتطورة وفي كل مرة تأتي أقوى وأشرس. فيما أثبت النظام الطبي أنه غير ملائم وغير فعّال، طالما ألزم الناس البقاء في المنازل. ثم لماذا لم نستنتج من هذه الأزمة أن جزءاً من الحلول المستقبلية أن نعيش فترة أطول في المنازل، بمعنى أن نقلّل من ساعات العمل، فنوفّر فرص عمل للآخرين؟
ظهرت جليّاً خلال الأزمة التناقضات العلمية. ورغم الكمّ الهائل من المعلومات حول الأسباب والنتائج وتغيّر الفيروسات وتطورها وتأقلمها، وأساليب الوقاية والحجر… لم نستطِع أن نفهم ما إذا كنّا من ضحايا هذا الوباء أم أننا مذنبون بشكل أو بآخر، ونتحمّل مسؤولية ما عن الانتشار! وإذ لا نستطيع أن نركن إلى العلماء مع نظرياتهم المتباعدة والمتضاربة والمتناقضة والمتغيّرة، مثل الفيروسات نفسها، لم نعرف ما إذا كنا مذنبين، على الأقل يوم اتّكلنا كلياً على العلم والعلماء واستبعدنا الفلاسفة ونظرياتهم وشكوكهم في العلم ونقدهم له ولنتائجه وتبريراتهم ومراجعاتهم للأخلاقيات العلمية!
عرفت البشرية حروب المجاعات وحروب الجماعات التي أنتجت أيديولوجيات وفلسفات مناسبة. الآن نعيش حروب المناعات... فأي فلسفة يُفترض أن نعد، وأي أسلوب حياة جديدة يكسبنا المناعة المطلوبة؟
الخشية أن ننساق إلى تجّار التكنولوجيا الطبية ونحوّل بلداننا إلى مستشفيات كبيرة لمواجهة الأوبئة القادمة حتماً. قد نحتاج لفلسفة حياة جديدة وليس لفلسفة استشفاء. فلسفة تأخذ في الاعتبار كل الأبعاد الوجودية بما فيها الميتافيزيقية. فهناك البعد المتعلّق بدوام العمل ونوعيته وطرق الإنتاج والاستهلاك، بالإضافة إلى طرق الغذاء الصحي والبسيط، إلى الرياضة وحركة الجسم… وأخيراً الدواء. لذلك يفترض العودة إلى ابن سينا في هذا المجال الذي كان يقول: «شخّص الداء وعالج بالماء»، للتأكيد أن الأساس هو في تشخيص المرض ومعرفة أين حصل الخروج عن السلوك الصحي السويّ والعودة عنه، وبعدها يأتي الدواء كتفصيل. أي بعكس الاتّجاه السائد اليوم، حيث لا يزال العالم ينتظر الأدوية والأمصال واللقاحات من وباء إلى آخر ومن جائحة إلى أخرى… بدل التركيز على العناصر الأساسية لحماية الصحة من بيئة سليمة وغذاء سليم وحياة فيها حركة ورياضة جسدية ونفسية وجهاز مناعي قوي مدرّب ومجهّز دائماً. حياة فيها ساعات اللهو والبقاء في البيت أكثر من ساعات العمل، تماماً كما كانت الحال أثناء فترة الحجر المنزلي التي كانت ضرورية للعودة إلى الذات، بعد أن جعلت سوق العمل الإنسان شبه آلي، وحوّلت المجتمع إلى بالوعة استهلاكية ليس الفرد فيها أكثر من سلعة هو نفسه. فهل ساهم الحجر في العودة إلى الذات وإعادة اكتشاف معنى السعادة خارج دائرة حبّ الاقتناء والاستهلاك؟
الإنسان الجديد ما بعد «كورونا» يحتاج إلى أنظمة صحّية جديدة وطبابة بديلة تركّز على حماية الصحة أكثر مما تركز على الاستشفاء. نظام صحيّ له مصلحة بالصحة وليس نظاماً له مصلحة بالمرض ويخدم تجار الأدوية والتكنولوجيا والمعدّات الطبية. وهذا النظام يتطلّب أنساناً جديداً يؤمن أن حياته وصحته جزء من نظام كلّي، ايكولوجي بالأساس، أكثر منه اجتماعياً… ما يمهّد للعودة إلى الطبيعة جزئياً على الأقل والبحث مجدّداً في كيفية عودة الانسجام معها.
شكّلت الجائحة «بروفا» قاسية لكيفية الاختيار بين الأولويات أو بين الضروريات. فقد نكون في المرحلة المقبلة مجبرين على الاختيار بين إنقاذ الأرواح أو إنقاذ الاقتصاد أو إنقاذ البيئة! وقد يفرض علينا أن نعيد الاعتبار للتأمّلات الفلسفية لنعرف ماذا علينا أن نختار في الأوقات الحرجة المماثلة.
بيئياً، مثلما قدّمت أزمة «كورونا» نموذجاً لحركة وعمل أقل وإمكانية العودة إلى العيش بتلوث أقل، وجّهت ضربة لفكرة التقارب في أماكن العمل والأماكن العامة (كالحدائق والساحات العامة) والنقل العام... التي كانت تُعتبر بين الحلول الاقتصادية الموفرة مادياً وبيئياً (من مساحات خضراء وتلوث هواء).
على العموم، تحتّم مرحلة ما بعد الجائحة إعادة النظر في الكثير من المعتقدات والعادات، وربما تذهب إلى طرح إعادة النظر بفكرة التقدم وسرعة الانتقال، بالإضافة إلى إعادة النظر بالنموذج الحضاري الذي نعرفه والذي تسبّب بكلّ تلك الأزمات المتراكمة.