التهمة: سرقة حامض من بستان جيرانه. رأسان من الماعز من مزرعة أقربائه. علبة حليب للأطفال من الصيدلية. معلّبات من السوبرماركت... أيّ شيء يُسعف في سدّ الرمق.هذه عينة من الشكاوى التي بات يتلقّاها القضاء أخيراً. لم تعد التهم التي تُسجّل في أقلام المحاكم كلها سرقات مصاغ وأموال وسيارات وغيرها من أفعال السرقة التي يعاقب عليها القانون، فمع ازدياد حاجة الناس في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، يدرج نوع جديد من السرقات في أقلام محاضر المحاكم: لقمة العيش. هذا ما خبره، أخيراً، القاضي المنفرد الجزائي في صور، محمد مازح.
قبل أيامٍ قليلة، فوجئ القاضي مازح بطلبات إخلاء سبيل على مكتبه لمتهمين بسرقة حامض من أحد البساتين في صور. لم يصدّق. سأل رئيس القلم عن الشكوى، فكان الجواب من الأخير «يا ريّس في كتير»، يقول القاضي مازح. كانت تلك المرة الأولى التي يواجه فيها أمراً كهذا: سرقة حامض. صحيح أن فعل السرقة هنا أخفّ ثقلاً، ولكن «سحّارة» الحامض في مثل تلك الظروف أكثر وجعاً. لا أحكام في القانون لسرقة كهذه. فكيف سيتصرف القاضي إزاء طلب كهذا؟ أيّ نصّ في القانون قد يتبعه للبتّ في إخلاء السبيل؟ لم يكن أمام القاضي سوى اتّباع «ما يقوله الضمير»، يقول. لهذا، أعطى موافقة فورية على الطلبات، بعدما «تركت النيابة العامة الاستئنافية في الجنوب الأمر لتقدير المحكمة وبعد أخذ موافقة المدعين شخصياً». صحيح أن ما يفعله مازح هو مجرد تدبير مؤقت «بانتظار بدء جلسات الحكم، ذلك أن فعل السرقة، وإن أسقط المدّعي حقه، لا يسقط معه الحق العام»، إلا أنه في مثل تلك الظروف الاقتصادية الصعبة «أقلّ الواجب».
واعتبر القاضي أن ما فعله «ليس تشجيعاً على السرقة، ولكن إدراكاً بأن من جاع سيخرج شاهراً سيفه ليطعم أهله (...) فتداركوا الأمر أيها الحكام». وهو إذ يفعل ذلك، يعرف بأن من سرق «سحّارة حامض» لم يفعل ذلك لأنه سارق، بل لأنه جاع. وفي هذه الحالة، وبما أن السارق «سرق عن حاجة، فالأولى أن تُقطع يد الحاكم». هذا ما قاله مازح، الذي كان أمس على موعد مع طلب إخلاء سبيل جديد يتعلق بسرقة «رأسين من الماعز في منطقة عين بعال». لم تعد تلك الطلبات تفاجئ القاضي، كما غيره من القضاة الذين اعتادوا. يجزم مازح بأن مثل هذه الطلبات «ستكثر مع الأيام، وخصوصاً في ظل الأوضاع الاقتصادية الخانقة».
في الآونة الأخيرة، كبرت ظاهرة سرقة المواد الغذائية. ويمكن أن تعثر كل يوم على خبر هامشي عن سرقة أب لعلبة حليب لطفله أو سرقة أم لبعض الخُضر لإطعام أطفالها أو أيّ شيء. فبعد استفحال الأزمة الاقتصادية وخسارة كثيرين لأعمالهم بسبب إقفالها، «ممكن الناس تقتل لحتى تاكل»، يقول مازح. إلى هنا، وصلت الأمور. بتعبير أدقّ، «إلى هنا أوصل الحكّام الناس». بكل راحة ضمير، يحمّل مازح «المسؤولين ما آلت إليه أحوال الناس... ولو أن هؤلاء قاموا بأقلّ الواجب تجاه المواطنين، لما أوجدوا عذراً للناس كي يسرقوا».