إلى اليوم، لا تعتبر إسرائيل المرحلة التي امتدّت بين غزوها لبنان عام 1982، وصولاً إلى انسحابها المُذِّل منه عام 2000، حرباً رسميّة لها اسم ويوم يخلّد ذكراها. قبل يومين، انقضى 20 عاماً على تلك اللحظة التي أغلق فيها رئيس هيئة الأركان سابقاً ووزير الأمن الإسرائيلي حالياً، بيني غانتس، البوابة خلفه. خرج جنود العدو من لبنان ولكن هذا الأخير لم يخرج منهم أبداً، ظلّ كابوساً مُلحّاً يتردّد في ليالٍ تطول إلى ما لا نهاية كما يقول معظمهم.
قصص من لبنان: ما جرى في المواقع (الصورة الرئيسية للمجموعة على فيسبوك)

تعالت مطالبات «المحاربين القدامى» بإعطاء هذه المرحلة اسماً، وتخليدها كمناسبة في يومٍ رسمي. لكن الحرب ظلت بلا اسم. ومنذ أكثر من شهرين، ومع وصول وباء «كورونا» إلى إسرائيل، وفرض ما يشبه «الإجازة المؤقتة» على جميع الإسرائيليين، ومن بينهم هؤلاء الجنود، قرر عدد منهم إنشاء مجموعة مغلقة في موقع «فيسبوك» تحت اسم «قصص من لبنان: ما جرى في المواقع»؛ سرعان ما قفز عدد الأعضاء فيها إلى 35 ألفاً، وبدأوا بنشر قصصهم، بمعدل 400 منشور يومياً! الدخول إلى هذه المجموعة لم يكن بالأمر السهل، إذ يُطلب من الراغب في المشاركة إثبات كونه جندياً سابقاً في لبنان، أو أحد ذوي الجنود القتلى، أو على الأقل إعطاء سبب مقنع للقائمين على الصفحة يفسر رغبته في المشاركة. ولكن دائماً ثمة «طرق وعرة والتفافية للدخول» ومن خلالها عبرت «الأخبار» إلى المجموعة، فجمعت الكثير من القصص والصور، ننشر بعضاً منها:

يوم بكينا وتبوّلنا على أنفسنا


خدمت في لواء (الناحال) في كتيبة 931. انضممت إلى سلاح المشاة في نهاية المسار التدريبي تحت إشراف قائد الوحدة، آفي دهان. تمركزنا في موقع كركوم على خط زرعيت، وكان ينضمّ إلينا كل بضعة أيام جنود آخرون من وحدات مختلفة. القصة التي اخترت روايتها حصلت بالذات في نهاية عام 1999. في ذلك اليوم، أمرني قائد الموقع، يِسرا: خذ جنديين اثنين معك من أجل مرافقة شاحنة أسلحة (من البوابة إلى داخل الموقع) وكان مفترض أن تصل بعد قليل. لسوء حظ كل من يوني وإلعاد (جنديين إسرائيليين) أنهما وصلا إلى موقعنا فقط منذ أيام قليلة ولا يعرفان بعد ما الذي تعنيه مرافقة شاحنة أسلحة. انتظرنا خارجاً، كان يوماً صافياً وأكثر من عادي حيث لا إجراءات جهوزية معيّنة. وصلت شاحنة الأسلحة وبداخلها جنديان اثنان من جيش لبنان الجنوبي. الشاحنة كانت مليئة بالعتاد العسكري من رصاص وذخائر وقذائف وأطنان من المواد المتفجرّة. تبادلنا التحايا والأحاديث مع الجنديين، قبل فتح البوابة لإدخال الشاحنة إلى داخل الموقع. فجأة، ومن دون سابق إنذار، (كما كان يحصل دوماً) وحتى من دون أدنى استعداد، سقطت قذيفة بالقرب منا. دبّ الرعب لثوانٍ قبل أن تسقط الثانية. كنت الأول الذي أدرك ما الذي يجري. قلت لهم (طيروا) إلى قلب الجحر (عسكرياً، تعني حفرة إفرادية) وهكذا قفزنا أنا ويوني وإلعاد والجنديين من جيش لحد إلى داخل الجحر بالقرب من البوابة. بالفعل كان كما لو أنه جحر أرنب، قلت لنفسي.
بوم بوم! القذائف لا تزال تتساقط، لم يكن الأمر عادياً. فجأة بدأت تتساقط صواريخ كاتيوشا، وبدأنا ندرك أن مقاتلي حزب الله عرفوا بأمر الشاحنة التي كانت في طريقها إلينا ويحاولون قتل الجنود الذين في الخارج. مهلاً! نحن هم الجنود الموجودون في الخارج! مهلاً مرّة أخرى! الشاحنة! الشاحنة الملعونة في الخارج وهي محمّلة بالأسلحة وبأطنان من المواد المتفجرة، وهي تقف فقط على بعد متر واحد من (الجحر) الذي نحن بداخله، وفي حال إصابتها بقذيفة واحدة، لن يتبقى شيء من أجسادنا يمكن إرساله للأهل الذين ينتظروننا في البلاد (في إسرائيل).
هذه اللعنة لا تتوقف... فيما نحن جالسون في الجحر تماماً مثل الأرانب ولا نعرف ما الذي يحصل خارجاً. أُمسك الجهاز (اللاسلكي) وأبلغهم بأننا بداخل الجحر وحتى الآن ما زلنا بخير. يطلبون منّا البقاء وأن لا نتحرك حتى يأتينا الأمر. طوال الوقت، ظلّ المطر الناري يهطل فوق رؤوسنا وحولنا من دون توقف. في هذه اللحظات بكينا، وتقريباً تبوّلنا على أنفسنا. واحد من الجنديين اللبنانيين (جيش العميل لحد) بالذات قرر أخد الأمور بروح طيبة واستغل الفرصة ليكشف لنا عن الندوب التي خلّفتها شظايا انفجار ما بجسده. أما صديقه الآخر، وكان خبيراً في المنطقة وكما أعتقد كان في عمر الأربعينيات، فقرر أنه يجب تمرير الوقت عبر إشعال سيجارة (من كل عقلك؟ أطفئها حالاً ! صرخت به!).
بعد 21 عاماً على الحادثة، لا تزال فكرة أننا كنا نسمع صوت زحف المقاتلين بالقرب منّا تلاحقني


أشعرتني كثافة النيران والقذائف بأن حزب الله يمهّد لاحتلال الموقع. وتساءلت إن كان ثمة احتمال بأن يكون مقاتلون من حزب الله موجودين بالقرب منّا؟ وفجأة، سمعنا صوتاً وكأنما هو خطوات فوق الحصى (الحجارة)، أو ما يبدو وكأنه زحف... أو مجرد قطة أو قنفذ خرج من جحره للتأكد من أن الفوضى انتهت. هذا ما قاله أحد الجنود اللبنانيين. صه! قلت له؛ إذ إن صوت الزحف عاد مرّة أخرى. حاولت إخراج رأسي لمعرفة مصدر الضجة الآتية من خارج الجحر. هنا بدأنا نرتعد بالفعل. هل هناك مخربون في الخارج؟ وهذا يعني أننا قد نسمع فجأة تدحرج قنبلة يدوية باتجاهنا أو أنهم قد يأخذوننا أسرى.
رفاقنا في داخل الموقع فتحوا جهاز الإرسال. قائد وحدة المراقبة أيال فايس تحدث معي عبر اللاسلكي، وقال إنهم لا يجدون أي شيء. ولكننا سمعنا شيئاً ما ولا يمكنني شرح ذلك. شيء ما حصل هناك. حتى اليوم ما زلت متأكداً من أن مقاتلاً أو أكثر من حزب الله كان يزحف هناك بالقرب منّا. بعد قرابة نصف ساعة من الانتظار، جدد حزب الله قصف الموقع، وهذا الأمر عزز شكوكي وأكد لي أن أحداً من المقاتلين كان يزحف بالقرب منا، قبل أن يختفي. انتظرنا مزيداً من الوقت، إلى أن هدأ القصف. تحدث يسرا عبر اللاسلكي قائلاً: افتحوا البوابة، وادخلوا الشاحنة إلى الداخل واركضوا بسرعة رجوعاً الى الموقع.
قررت أن لا أبقى لحظة أخرى بالقرب من الشاحنة الملعونة هذه. توجهت إلى الجنديين اللبنانيين وقلت لهما: اصعدا إلى الشاحنة فوراً واهربا من هنا. أما العاد ويوني فقلت لهما: ثلاثتنا سنركض الى داخل الموقع من دون أن ننظر نظرة واحدة الى الخلف. ركضنا بسرعة رهيبة بين المكعبات الاسمنتية. وأخيراً وصلنا إلى الموقع الآمن.
على الرغم من أنه كانت هناك شكوك استخبارية، لم ينجح رفاقنا في الموقع على الإطلاق في اكتشاف إن كان ثمة مقاتلون من حزب الله أو لا. أو إن كان هؤلاء قد استغلوا الفرصة لزرع عبوات ناسفة حول الموقع أم ماذا؟ وهذه الشكوك هي نفسها صوت الزحف الذي كنّا نسمعه ونحن بداخل الجحر. وبسبب هذه المخاوف أُغلقت بوابة الموقع وطلب منّا عدم الخروج نهائياً. بقينا هناك لأكثر من شهر. وبعد أيام من مغادرتنا الموقع؛ إذ كانت قوة عسكرية من «جفعاتي» جاءت لتحل محلنا، انفجرت عبوة ناسفة بأفراد هذه القوة. وكما أذكر سقط قتيل على الأقل، وأكثر من سبعة جرحى.
إلى اليوم، لا يمكنني الانفصال عن فكرة أنني والعاد ويوني كان يمكن أن نموت هناك، ويكون مصيرنا مثل مصير هذه القوة. بعد 21 عاماً تقريباً على الحادثة لا تزال فكرة أننا كنا نسمع صوت زحف المقاتلين بالقرب منّا وأنهم ربما كانوا يزرعون العبوات وأننا لم نفعل شيئاً لمنعهم من ذلك... تلاحقني.
(مأور غرينبرغ، جندي من «الناحال»)

■ ■ ■


كابوس أنصار: نحن أسرى الخوف


«على الرغم من مرور أكثر من ثلاثين عاماً، لا يزال معتقل أنصار إلى اليوم يشكّل واحداً من أسوأ الكوابيس التي خلّفها لبنان بالنسبة إليّ. كان من الصعب للغاية التفكير في أنني كنت جالساً في برج المراقبة، وفي الأسفل هناك الآلاف من الأسرى الإرهابيين والمساعدين ومجرد مدنيين. تذكّرني مراقبة الأسرى من الأبراج بمشاهد شبيهة، ولكن حين كنّا نحن اللا أسرى تحت المراقبة؛ يوم كنّا مثلاً متمركزين في داخل المواقع وثمة على الدوام من يراقبنا من التلال القريبة، ممسكاً بندقيّة آلية موجّهة نحونا. المشاهد من معسكر أنصار لا تغادر الذاكرة حيث الأسرى يمشون طوال اليوم، ذهاباً وإياباً، ليلاً ونهاراً، بلا توقف. كان يمكن بكل سهولة استشعار كراهيتهم تجاهنا، وخاصة أنهم كانوا مجموعة كبيرة تشعر بالقوة. صحيح كنّا نحن الجهة الآسرة، ولكن من جهة ثانية كنّا مأسورين بالخوف من فكرة صول أسلحة إلى أيدي هؤلاء الأسرى. لكن الرعب الحقيقي كان عندما يحين موعد العطلة والعودة إلى البيت في رحلة لا يُعرف أبداً كيف ستكون نهايتها».
(رافي ويرثيم)

■ ■ ■


أمطار من القذائف في «القنطرة»... وعبوة


المكان: نقطة التبديل 24 لمحور كرني حيث كانت تُزرع العبوات الناسفة، والتي كان جزء منها قاتلاً فعلاً.
الزمان: ربيع 1988.
«كنت في حينه ضابطاً في (يكال ــــ وحدة الارتباط اللبناني) في اللواء الغربي. تبدأ القصة من المخرج الغربي لبلدة الطيبة؛ حيث كانت هناك بعثتان اثنتان قد عسكرتا في موقعين قريبين. البعثة الأولى تموضعت إلى الشمال من البلدة في منطقة ينتهي بها موقع شومريا، والثانية جنوباً في منطقة ينتهي فيها موقع قنطرة (في بلدة قنطرة الجنوبية). في الفترة نفسها، بدأ استهداف مواقع الجيشين الإسرائيلي وجيش لبنان الجنوبي، وكانت الأوامر تقضي بإجراء اتصال على رأس كل ساعة. عبر الجهاز اللاسلكي، طلبت الاتصال بموقع قنطرة ولكن الإشارة كانت سلبية تماماً. بحلول الصباح، عادت الإشارة إيجابياً بشكل مفاجئ. وكما كان متبعاً في حينه طلبت من اللحديين عبر الجهاز فتح الطريق وتأمينه قبل وصولي. لسبب ما حاولوا نهيي عن الوصول إليهم، ولكنّ شيئاً ما في داخلي كان يقول لي عليك الوصول للتأكد من أن كل شيء هناك على ما يُرام. في غضون ذلك، قمت بتنظيم عدد من الجنود، حيث كان الإجراء يقتضي أن يأخذ ضابط وحدة الارتباط اللبناني بضعة جنود ويقومون بفتح الطريق إلى الموقع المنوي الوصول إليه بعد التأكد من خلوّه من العبوات الناسفة. بعد ذلك، صارت الإجراءات تقتضي أن تتضمّن القوة ضابطاً من وحدة الارتباط اللبناني، وعدداً من الجنود التابعين للواء الناحال، وسائقاً من جيش لبنان الجنوبي. وقبل فتح الطريق، كنا نجري تمريناً واستعراضاً للمعلومات، وبينما كنا نقوم بذلك في طريقنا إلى القنطرة، أجريت اتصالاً مع الموقع اللحدي وقالوا مرّة أخرى إنه ليس هناك ضرورة لكي أصل إليهم. مع ذلك أصررت مجدداً وقلت إنني في طريقي إليكم».
أتذكّر جيداً هواء لبنان النظيف المشبع برائحة الطبيعة على طول الطريق الحدودي المرعب


«وفي خلال تقدمنا مشياً على الأقدام، كان الجنود يزيلون العوائق والسياجات الحديدية والشِّباك، ثم يدخل قصاص الأثر (كان اسمه عاطف)، ويتفقد إن كان ثمة أيّة آثار تدل على عبث الحيوانات أو البشر، ومن ثم نستمر في التقدم حتى تأمين الطريق. في هذه الاثناء، السائق عزّت من جيش لبنان الجنوبي ناداني عبر الجهاز، بينما كان لا يزال داخل الجيب العسكري، وسألني إن كان باستطاعتي رؤية الشخص الجالس على القمة الجنوبية مقابلنا ويراقبنا؟ وما إن أنزلت النظارات لكي أرى ما يحدث على التلة حتى صرخ عاطف: عبوة... عبوة. بدأنا بالركض على الأسلاك للتأكد من أنه ليس هناك أي أحد قريب. وخلال ذلك أمطرت علينا القذائف ولكن كما لو أنها معجزة، القذيفة التي سقطت على بعد متر واحد منا لم تنفجر. ما أنقذنا كان رد فعل المدفعية وطائرتان حربيتان. وهنا أخبرهم بأنني أريد التعطيل (تعطيل العبوة) والمتابعة، وحينها أسمع، بريمو، ضابط الهندسة في وحدة الارتباط اللبناني، يحذّرنا من الوصول إلى الموقع. انتظر مع القوّة في المكان (في نقطة التبديل 24). يصل جيب لجيش لبنان الجنوبي وبداخله مفكك العبوات. يفجّر. ونتابع الروتين».
(إيلي ساسون، ضابط في وحدة الارتباط اللبناني)

■ ■ ■


«المنشفة» التي أحرقت موقع «دلاعت»


الزمان: 1992. المكان «موقع دلاعت» العسكري
«دخلنا إلى حيث كنّا ننام داخل الموقع (دلّاعت)، كما جرى الروتين اليومي في ساعات المساء. وفجأة سمعنا صراخاً : حريق! حريق في الموقع! على الفور قفزنا من الأسرّة، ورأينا ألسنة اللهب قد أتت على غرفة الضباط، فيما كانت تمتد وصولاً إلى المطبخ القريب. رحنا نسمع أصوات الانفجارات التي كان سببها وصول النيران إلى بعض الأسلحة، ولم يسعفنا من ذلك كلّه سوى المكعبات الاسمنتية. لا أذكر بالتحديد كيف أُخمد الحريق في نهاية المطاف، وإن كانت قد وصلت إطفائية أم طائرة إطفاء. كل ما أذكره أنه كان يمكن أن يتسبب هذا الحريق الذي لو وصل إلى جرّات الغاز (في المطبخ)، في قتلنا جميعاً. في اليوم التالي، وصلت شاحنة وأفرغت الموقع من مخلفات الحريق، واستُبدل ما تضرر. أمّا كيف اندلعت النيران؟ أحد الضباط (لا أريد ذكر اسمه) ترك منشفة حمام فوق مدفأة السولار (نوع من أنواع المحروقات، مثل الكاز)».
(شماي آيزنمان، خريّج لواء جفعاتي اب 1990)

■ ■ ■


هل ستتناثر أشلائي خارج شاحنة الريو؟


«إنها واحدة من أكثر المهمات الممتعة التي قمت بها خلال خدمتي في لبنان، ولكنها أيضاً واحدة من أكثر المهمات رعباً على الإطلاق. كان ذلك بمثابة يوم تجوال وتفقد لكافة المواقع الحدودية، من رأس الناقورة وصولاً إلى تلال مزارع شبعا، وهذا هو الجزء الممتع كونه جولة. أمّا الجزء المرعب فهو طابع المهمة التي أوكلت إليّ؛ إذ كان مفترضاً أن أؤمّن الحماية لشاحنة ريو مليئة بالأسلحة الجديدة ومن كافة الأنواع: راجمات، قاذفات لاو، قنابل مضادة للدروع، قاذفات آر بي جي، وآلاف الرصاصات من جميع الأحجام. وصلت الشاحنة إلى أحد المواقع حيث تموضعت مجموعة تابعة لـ(باهاد1 ــــ اختصاراً لمدرسة الضباط التابعة للجيش الإسرائيلي) حيث كنت أخدم، مع الذين ذهبوا إلى سلسلة لبنان في إطار دورة ضباط للمشاة.
كان ذلك عام 1997، حين أصبح سقوط صاروخ على السياج أو مهاجمة موقع ما روتيناً يومياً؛ ثم إن التفكير في مجرد احتمال أن تنتهي حياتي ويتناثر جسدي أشلاءً لم يكن اعتقاداً مطمئناً على الإطلاق. أمّا لماذا حصلت على هذا الشرف؟ (توكيله بمهمة تأمين الحماية للشاحنة)»، فالسبب كما يتابع: «لقد كنت تلميذاً في دورة للضباط تابعة للواء المشاة، وبترافق لعدد من الأحداث والمصادفات كما لو أنها من الأفلام ــــ قائد السرية إريك حان/ أحونا التي كنت أخدم فيها تحت إمرته في لبنان، هو نفسه من كان قائد سرية في مسار التدريب الخاص بجولاني (جنّدت للتدريب في آب عام 1995 للكتيبة 13)، وفي خلال خدمتي في جولاني عيّنني في منصب جندي ارتباط (مهمته أن يكون صلة الوصل بين القائد وعموم السرية)، وعندما قابلته مرّة أخرى في (باهاد 1)، عيّنني إريك مجدداً لكي أكون صلة الوصل بينه وبين عموم السرية. وهذا يعني أنني مارست هذه المهمة لمدة سنة وثمانية أشهر (هل هناك أي مدخل لغينس؟)».
«وفي أحد الأيام ناداني إريك وبشّرني بأنني اخترت لمهمة مرافقة وتأمين حماية شاحنة الأسلحة. ووعدني بأن هذه المهمة ستكون بمثابة جولة تعليمية بالنسبة إليّ. لم أكن أفهم في ذلك الوقت إن كان هذا عقاباً أو تقديراً، ففي الوقت الذي سافر فيه الجميع في باصات مكيّفة من متسبيه رامون (مستوطنة شمالية) إلى لبنان، كنت أنا في شاحنة غير مكيفة ومع سائق بالكاد يعرف كلمتين عبريتين، كل هذا والخوذة لم تنزل عن رأسي للحظة، خلال سفرنا في الطريق الطويل. وفي وقت ما خلال الطريق سمحت للسائق بخلع خوذته بعدما هددني بالتمرد. أمّا أنا فقد كنت تلميذاً نجيباً وحافظت على وضعها على رأسي لأنني اعتبرت خلعها خرقاً للأوامر. أكثر من 4 ساعات، استغرقنا لشق طريقنا من (باهاد 1) إلى رأس الناقورة، حتى قطعنا الحدود اللبنانية بالكامل من الشرق إلى الغرب، وصلنا مرهقين بفعل ارتجاج شاحنة الريو المتواصل، وضجيج محركها الذي لم يهدأ. لقد أجبرنا الخوف على أن نبقى متيقّظين طوال الطريق، ومع كل صندوق ذخيرة كنا نضعه في أحد المواقع التي مررنا بها كنت أشعر بأنني أتممت جزءاً من المهمة. لا أذكر المواقع التي زرناها، ولكنني أتذكّر جيداً هواء لبنان العليل، النظيف، المشبع برائحة الطبيعة وخاصة رائحة أشجار الصنوبر على طول الطريق الحدودي المرهق، والمرعب».
(تزاحي هراري، جندي ارتباط)