يُتوقع أن يصل عدد الأجهزة الموصولة بالإنترنت، حول العالم، إلى 50 ملياراً في أيّ وقت بدءاً من عام 2025، وأن تتضاعف الزيادات المتوقّعة في الحركة بما يقارب 100 مرة خلال 10 سنوات. الوصول إلى ذلك يتطلب ابتكار تكنولوجيات عدة، منها تكنولوجيات الجيل الخامس التي تقوم بتوصيل الأشخاص والأشياء والبيانات والتطبيقات وأنظمة النقل والمدن في بيئات اتصالات ذكية. وهي قادرة على نقل كمية هائلة من البيانات بأسرع بما لا يقاس مما وفّره الجيل الرابع مع زمن تأخير أقلّ.تستخدم شبكة الجيل الخامس بعض نطاقات التردّد نفسها التي استخدمتها الأجيال السابقة كالجيلين الثالث والرابع من الشبكات اللّاسلكية، إضافة إلى استعمال نطاق تردّدات عالية ذات موجات ميليمترية لا يمكنها اختراق العقبات كالجدران أو أوراق الأشجار، مثلاً. لهذا، تتطلّب هذه الترددات أجهزة راديو في كل الأمكنة وأضعافاً مضاعفة من البنية التحتية، مقارنة بعمليات نشر الجيلين الثالث والرابع، وهذا يفرض - تالياً - وجود كمّ هائل من الهوائيات الصغيرة في الأحياء السكنية، لا بل تثبيتها على أعمدة الإنارة وإشارات المرور والأسطح والجدران وغيرها. وهو ما يجعل السؤال مبرّراً: هل يخلّف الطيف العالي التردد المعروف بأطوال الموجات الميليمترية المستخدمة في الجيل الخامس آثاراً صحية على البشر؟
الإجابة تفرض التوقّف مطولاً عند تجربة مدينة ووهان الصينية مع الجيل الخامس والفيروس التاجي. في مطلع تشرين الثاني الماضي، نشر موقع «بي بي سي» تقريراً تحت عنوان «الصين تطرح واحدة من أكبر شبكات الجيل الخامس في العالم». بعدها، كرّت سبحة التقارير التي أجمعت في معظمها على أن ووهان واحدة من أول الأماكن التي خضعت لتجارب الجيل الخامس، قبل أن يتبعها عدد من المدن الصينية الكبرى مثل بكين وشنغهاي. بعد أقلّ من شهرين، بدأت معاناة ووهان مع انتشار الفيروس التاجي وتحوّلت إلى بؤرة انتشاره الأولى. وما يثير القلق هنا، أيضاً، أن الصين بدأت، منذ تشرين الثاني الماضي، بتركيب تقنيات الجيل الخامس في مستشفياتها. وهي أتمّت في نهاية العام الماضي نشر 130 ألف محطة بثّ في كل أنحاء البلاد، منها 10000 في ووهان وحدها، وهو ما يعادل عدد المحطات في كلّ الولايات المتحدة.
ووهان كانت السبّاقة في تجربة تقنية الجيل الخامس، وكانت الحاضنة الأولى لفيروس «كورونا». فهل من رابط بين هذه التقنية وظهور الفيروس؟ أو بتعبير آخر، هل تقنيات الاتصالات، ولا سيما الجيل الخامس، مضرّة بالإنسان؟
في نيسان من العام الماضي، أوقفت الحكومة البلجيكية اختبار تقنية الجيل الخامس في بروكسل بسبب مخاوف من أن إشعاعات محطات البث قد تكون ضارّة. وطالب أعضاء البرلمان الهولندي حكومتهم بمزيد من الدراسات حول التأثير الصحي لشبكة الجيل الخامس. كما اتخذت سويسرا إجراءات لرصد تأثير هذه التقنية على البشر. علماً أن منظمة الصحة العالمية صنّفت، عام 2011 ، إشعاعات الترددات الراديوية على أنها «من المحتمل أن تكون مسرطنة للبشر». في هذا الشقّ بالذات، وبما أن الجيل الخامس يستخدم نطاق ترددات عالياً جداً مقارنة بما سبقه، فالأرجح أن دائرة الخطر ستتمدّد، وخصوصاً أنه يحتاج إلى أعداد هائلة من محطات البثّ والهوائيات وإلى طاقة عالية. مجرد الشكّ، هنا، يستوجب على الأقل اختبار سلامة استخدام أطوال الموجات الميليمترية في الجيل الخامس على الإنسان قبل التسابق العالمي لنشرها. وهذا ممكن، وخصوصاً أن هناك تقنيات متعددة، منها تلك التي تستخدمها لجنة الاتصالات الفيدرالية الأميركية منذ عام 1996 وتُعرف باسم Specific Absorption Rate SAR (معدل الامتصاص النوعي) وهي وحدة قياس لمقدار طاقة التردد اللاسلكي التي يمتصّها الجسم عند استخدام هاتف محمول. فهل جرى تحديث التوصيات حول مستوى SAR ومعايير سلامة الهواتف من قبل لجنة الاتصالات الفيدرالية بناءً على أحدث التقنيات اللّاسلكية المستعملة الآن، وخصوصاً مع الجيل الخامس؟
ناقش الدكتور مارتن بال، أستاذ الكيمياء الحيوية في جامعة ولاية واشنطن، الآثار البيولوجية والصحية الناتجة عن الجيل الخامس، مشيراً إلى أن «المبادئ التوجيهية الحالية للجنة الاتصالات الفيدرالية الأميركية غير كافية، وعفا عليها الزمن، لصالح صناعة الاتصالات». يعتقد الأخير أيضاً أنه قد تكون هناك «آثار سيئة كبيرة على المدى الطويل بعد تنفيذ الجيل الخامس مثل العمى وفقدان السمع وسرطان الجلد والعقم لدى الذكور ومشاكل الغدة الدرقية».
واستناداً إلى تقارير لمنظمة الصحة العالمية، أيضاً، لا جدال في أن المجالات الكهرومغناطيسية فوق مستويات معينة يمكن أن تؤدي إلى تأثيرات بيولوجية. ويتمحور الجدل الحالي في المنظمة حول ما إذا كان التعرّض المنخفض المستوى على المدى الطويل يمكن أن يؤثر على الإنسان. في هذا الإطار، قال الدكتور إيريك فان رونجن، رئيس اللجنة الدولية للحماية من الإشعاع غير المؤين (ICNIRP)، إن تقنيات الجيل الخامس «لن تكون قادرة على التسبّب في ضرر عندما يتم الالتزام بالإرشادات الجديدة». وهذا ما يدفع للتساؤل حول ما إذا كان تم الالتزام بالإرشادات في عملية التجارب واستعمال الجيل الخامس في مدينة ووهان؟ وهل الإرشادات الجديدة كانت مستعملة قبل تلك التجربة؟ ولماذا لم يعلن عنها بداية العام الماضي عندما كان الجيل الخامس قيد التجارب؟
من المؤكد أن الجيل الخامس هو المستقبل. لكن، على الأرجح، سيكون ذلك على حساب صحتنا على المدى الطويل. هذه التقنية المتقدّمة، إنما غير المختبرة أقلّه حتى الآن، تقترب بسرعة، وهناك شيء واحد يجب أن نفعله جميعاً وهو تشجيع البحث والابتكار المسؤول الذي يأخذ في الاعتبار الآثار المحتملة على الإنسان والبيئة. وقبل أن نجعل منازلنا وشركاتنا ومدننا «ذكية»، من المهم اتخاذ قرارات «ذكية» عند اعتماد التكنولوجيا الجديدة، وبذكاء، وخصوصاً أن إمكاناتنا بسيطة وحاجاتنا أقلّ.

* مستشار في لجنة الإعلام والإتصالات النيابية