في 17 آذار الماضي، كانت فرنسا أمام أول مواجهة فعلية مع فيروس «كورونا»، مع إعلان الرئيس إيمانويل ماكرون حظر التجوّل، مدفوعاً بتسجيل 127 حالة وفاة. كان الفيروس قد بدأ مسيرته في بلاده قبل ذلك بـ 19 يوماً، مصحوباً بأعداد من الإصابات والوفيات التي باتت مع الوقت غير قابلة للتجاهل أو التعامي.منذ ذلك الحين، بدأ ما يسمّى التعداد الرسمي، فانطلقت السلطة الفرنسية من 400 إصابة لتحطّ، أمس، عند أكثر من 99 ألفاً، بينما وصلت أرقام الوفيات إلى 10 آلاف.
ولكن، بين هذه الأعداد، أرقامٌ أخرى كانت الحكومة الفرنسية تضعها جانباً، متّبعة الإجراء ذاته المبني على التعامي الذي اعتمدته في بداية الأزمة. فجأة، بدأت تبلّغ عن أعداد وفيات تتخطّى الألف في غضون 24 ساعة. هذه المرّة، كان تاريخ الثاني من نيسان هو المفصلي، حين جرى تسجيل 1355 وفاة جديدة في 24 ساعة فقط. لكن هذا الرقم لم يكن وليد الساعات الـ 24 فعلاً، فقد تبيّن أن الحكومة الفرنسية كانت «تخبّئ» حالات الوفاة في دور الرعاية. كان كبار السن في هذه المساكن خارج التعداد الرسمي الذي كان يقتصر حتى ذلك الوقت على المستشفيات، متعامياً أيضاً عن الوفيات في المنازل الخاصة. 884 حالة وفاة في دور رعاية المسنّين وقعت على مدى أسابيع، جرى الإعلان عنها في يوم واحد فقط، مع ما لا يقل عن 14.638 حالة «مؤكدة أو محتملة» للمرض هناك. تلا ذلك الإعلان عن 532 حالة وفاة جديدة في هذه الدور، في الثالث من نيسان، لتتوالى التبليغات عن الأعداد في تلك الأماكن، وتصل إلى أكثر من 2500، بحسب وزير الصحة أوليفييه فيران.
ليس من الواضح السبب وراء التغافل عن هذه الأرقام، إلّا أن التصريح الصادر عن المدير العام للصحة جيروم سالومون، قبل أسابيع، يمكن أن يعطي فكرة عن مدى استخفاف السلطات الفرنسية في تعاملها مع هذه الفئة العمرية في ظلّ هذه الأزمة. في إحدى إحاطاته، زلّ لسان سالومون عندما قال إن «الوفيات في المستشفى ربما تمثّل نسبة صغيرة من نسبة الوفيات الكاملة»، الأمر فتح الباب أمام كثير من الشكوك حول مدى موثوقية التقرير اليومي عن الوفيات، الصادر عن الصحة العامّة، منذ بداية الوباء.
تمحورت التساؤلات، منذ ذلك الحين، حول ما إذا كان أسلوب التعداد الفرنسي يقلّل من عدد الوفيات بسبب «كوفيد-19». وهل يمكن لذلك أن يفسّر جزئياً الفجوة مع دول أخرى، مثل إيطاليا؟ أما السؤال الأكثر إلحاحاً، فقد كان: ما هو العدد الفعلي للوفيات في دور رعاية المسنّين؟
من المستحيل وضع رقم دقيق لعدد الأشخاص الذين توفّوا بسبب فيروس «كورونا» في فرنسا، كما من المستحيل معرفة العدد الفعلي للمسنّين الذين توفوا بسببه. ما يمكن تأكيده هو أنّ الأرقام التي تنشرها الحكومة الفرنسية، حالياً، عن هذه الفئة العمرية لا تزال تقديرية، وهي إن كانت تعني شيئاً، فهو أنّ فيروس «كورونا» قد أصاب هؤلاء المسنّين، بقوة، في دور الرعاية التي يسكنونها.
حوالى 7 آلاف دار رعاية، تضم أكثر من 800 ألف مسنِّ، كانت خارج التعداد الرسمي لضحايا فيروس «كورونا». ورغم الإعلان عن أكثر من 2500 وفاة، حتى الآن، في تلك الأماكن، إلّا أنّ الأرقام قد تكون أعلى من ذلك بكثير، باعتبار أنّ أول حالتي «كورونا» فقط تخضعان للاختبارات. ولكن لماذا اختباران؟ سؤال منطقي، والجواب عنه هو أنّ الأمر مرتبط بتوصية من وزارة الصحة، في 16 آذار، بأن «يخضع المرضى الأوائل، الذين يعيشون في مبنى سكن جماعي للاختبار. وبعد الحالة الثانية المؤكدة، يُفترض أنّ أي شخص يعاني من أعراض، يعتبر مصاباً بالفيروس». بناءً عليه، يجري التعامل مع الحالات الأخرى على أنها حالات «كوفيد-19»، وفقاً للفحص السريري (خصائص وأعراض المرض الملحوظة)، ولكن من دون احتسابها، لأنه لم يتم إجراء اختبار عليها.
فضلاً عن ذلك، فإنّ فرنسا لا تجري فحوصات ما بعد الوفاة، كما في إيطاليا مثلاً. بمعنى آخر، عندما يموت شخص في دار للرعاية أو في المنزل، لا يتم فحصه، وبالتالي لا يجري احتسابه من ضمن ضحايا الفيروس.
حوالى 7 آلاف دار رعاية تضم أكثر من 800 ألف مسنّ كانت خارج التعداد الرسمي للضحايا


ولكن كيف يمكن معرفة عدد الإصابات المرتبطة بـ«كوفيد-19» من دون إجراء اختبارات؟ ببساطة، لا توجد إجابات. كلّ ما تمكّنت وزارة الصحة الفرنسية من القيام به، أخيراً، هو تطوير إجراء للسماح بـ«المراقبة اليومية للوفيات، بمجرّد أن تبلّغ أي دار رعاية أو أي مؤسسة طبية ــــ اجتماعية أخرى عن حالة واحدة، على الأقل، مشتبه بأن تكون مصابة بالفيروس. وهي خطّة تتمحور حول فحص «كافّة النزلاء وطواقم العمل، اعتباراً من تاريخ تسجيل أول حالة في المؤسسة»، وفق تعبير وزير الصحة، الذي قال إن هذا الأمر «سيتيح تجميع الإصابات» وسيمكّن من «تجنّب انتقال العدوى إلى النزلاء الآخرين». يبدأ التعداد من تلك اللحظة، أي منذ بدء تطبيق هذه الخطة. أمّا الوفيات السابقة في دور الرعاية، فهي مجرّد أرقام، تحوّلت بالنسبة إلى السلطات الفرنسية، إلى تقديرات ارتدت لباس التعداد الرسمي، منذ أيام.
بحسب دومينيك شاف، الأمين العام للاتحاد الفدرالي للصحة الخاصة، فإنّ المخاوف باتت مرتبطة بسيناريو مشابه لذلك الذي حدث في إسبانيا، حيث اكتشف الجيش في عدد من دور الرعاية كباراً في السن متروكين لمصيرهم، وفي بعض الأحيان أمواتاً على أسرّتهم. شاف يؤكد أنّ عدد الوفيات بسبب فيروس «كورونا» بين كبار السن، قد «يتجاوز الأرقام التي سجّلت خلال الموجة الحرارية عام 2003. حينها، أدت تلك الموجة إلى أكثر من 15 ألف وفاة، وخصوصاً بين كبار السن.
الآن، ماذا عن الوفيات غير المعلنة في المنازل؟
منذ الدخول في المرحلة الثالثة من انتشار الفيروس، اختارت الحكومة الفرنسية عدم إجراء اختبارات على الحالات غير الحرِجة، الأمر الذي يؤدي في الوقت ذاته إلى التقليل من عدد الإصابات، وإساءة تقدير عدد الوفيات المرتبطة بفيروس «كورونا»، وهو ما قد يحوّل عملية التقييم إلى مسألة معقّدة جداً. بناءً عليه، يمكن لبعض الوفيات في المنازل، أيضاً، أن تبقى بعيدة عن رادار الإحصاءات.