في وقت تحوّلت فيه الولايات المتحدة إلى بؤرة تفشّي وباء «كورونا»، وفيما تصارع السلطات للارتقاء إلى مستوى التحدّي الذي يشكّله الفيروس، تشهد البلاد تحديات من نوع آخر، لا تنحصر بالشق الصحي، بل تتعداه إلى القطاعَين الاقتصادي والاجتماعي.الحقيقة تفيد بأن أميركا تقود العالم في عدد الإصابات الذي سجّلته. والواقع يشير إلى أن الأمور تخرج عن سيطرة إدارتها، أكثر فأكثر. وليس أبلغ تعبير عن ذلك إلا الرئيس دونالد ترامب، الذي يبدو أكثر حزناً، بشكل متزايد. وهو أقرّ، أخيراً، بأنه يفكّر في اتخاذ خطوات كان يتفاداها في السابق، مثل حظر بعض الرحلات الداخلية. في وقت وصل فيه عدد الإصابات في بلاده إلى 226,141، وارتفع عدد الوفيات إلى 5,307.
وتأتي هذه التصريحات في وقت أفيد فيه عن خسائر فادحة في الوظائف، وزيادة كبيرة في نسبة البطالة، كجزء من الانكماش الذي تعانيه الولايات المتحدة بسبب تفشي الـ«كورونا». كما بدأت تظهر علامات الوهن على القطاع الصحي مع اقتراب مخزونات الإمدادات الطبية من النفاد. وهو ما دفع إلى قبول مساعدة إنسانية من روسيا التي أرسلت طائرة عسكرية تحمل أقنعة طبية وتجهيزات. بل إن هذا الواقع دفع أميركا إلى مزاحمة فرنسا على الأقنعة الطبية التي طلبتها من الصين. وبحسب ما أعلن جان روتنر، رئيس منطقة غراند ايست الفرنسية التي تأثرت كثيراً بوباء «كوفيد ــــ 19»، فإنّ أقنعة طلبت فرنسا شراءها من الصين، يقوم الأميركيون بشرائها على مدارج المطارات الصينية قبل إقلاع الطائرات لتسليمها. روتنر أكد لإذاعة «ار تي إل» أن «الأميركيين يدفعون نقداً ثلاث أو أربع مرات ثمن الأقنعة الواقية التي طلبناها، وبالتالي علينا أن نحارب بقوة».
التداعيات الاجتماعية والاقتصادية الناتجة من الإغلاق التام، تكبر يوماً بعد يوم. وليس خافياً أن قطاعات كاملة في الاقتصاد الأميركي تعرّضت للضرر، ولا سيما أنّ الملايين فقدوا وظائفهم. والتحدي المالي الحالي يبدو غير مسبوق، إذ تشير التوقعات الاقتصادية إلى ركود أعمق وأطول أمداً ممّا كان يُتصوّر في السابق. كما أن التهديد الذي تتعرّض له الصحة العامة، يزداد حدّة، أكثر فأكثر، ويتمظهر بأكثر من شكل، منها تزاحم الناس على شراء الأسلحة النارية، خوفاً من اضطرابات داخلية مدفوعة بانتشار الوباء، ونقص بعض المعدات والسلع...
من فلوريدا، التي انضمّت إلى ولايات أخرى تطلب من الناس البقاء في منازلهم، إلى باناما حيث طُلب من الرجال والنساء الخروج إلى الأماكن العامة في أيام متناوبة، زادت السلطات المحلية من القيود المفروضة على حركة الأشخاص. ومع ذلك، لا تزال نيويورك المنطقة الأكثر تضرّراً، مع وفاة 1300 شخص فيها.
وصل عدد مقدّمي طلبات البطالة خلال الأسبوع الماضي إلى 6.6 ملايين


ومع تضاؤل الإمدادات الطبية، تبرز المخاوف من ألا يكون هناك ما يكفي من أجهزة التنفّس، أو غيرها من المعدات الضرورية، الأمر الذي يترك الأطباء في نيويورك يتصارعون مع الخيارات المؤلمة التي يواجهها عمّال الرعاية الصحية، يومياً، في إيطاليا وإسبانيا. ونقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن مسؤول رفيع قوله إن الحكومة الأميركية أفرغت، تقريباً، مخزونها الطارئ من الإمدادات الطبية الواقية، مثل الأقنعة والأثواب والقفازات، في حين اكتشفت بعض الولايات أنّ أجهزة التنفس التي تلقّتها لا تعمل.
التطورات التي تشهدها الولايات المتحدة كثيرة ومتسارعة، وآخرها تقرير صادر عن وزارة العمل تناقلته الصحف الأميركية، أمس، ويفيد بأنّ عدد مقدّمي طلبات البطالة في جميع أنحاء البلاد، خلال الأسبوع الماضي، وصل إلى 6.6 ملايين. ارتفاع غير مسبوق، يأتي بعد 3.3 ملايين طلب، تم الإبلاغ عنها في الأسبوع السابق. وإن كان هذا الرقم يعني شيئاً، فهو أنه خلال شهر آذار، فَقَد أكثر من 10 ملايين أميركي وظائفهم، وتقدموا بطلب للحصول على مساعدة حكومية. ويتوقع أن تشهد هذه الأرقام ارتفاعاً كبيراً، في الأيام المقبلة، ولا سيما أن الكثير من الأميركيين العاطلين عن العمل لم يتمكنوا بعد من ملء طلب البطالة. لذا، يتوقع الاقتصاديون أن نسبة العاطلين عن العمل قد تصل إلى 10 في المئة، وهو ارتفاع هائل ومفاجئ عن شهر شباط، عندما كان معدل البطالة 3.5 في المئة.
وبشكل تفصيلي، فإن الضرر الاقتصادي الناجم عن الوباء، والذي كان قد تركّز في البداية في القطاع السياحي والصناعات ذات الصلة، بات الآن ينتشر ويتوسّع، ليطاول قطاعات عدة، مثل الصناعات التحويلية، الذي بدأ في التعافي من الحرب التجارية، العام الماضي، والذي عاد لينكمش من جديد. كما يتزايد تسريح العمال في قطاعات التصنيع والتخزين والنقل. وتظهر البيانات من «موقع التوظيف» ZipRecruiter انخفاضاً حاداً في الوظائف الشاغرة، حتى في الصناعات التي عادة ما تكون معزولة عن الركود، مثل التعليم والرعاية الصحية.
الى ذلك، أُلغي خلال الأسبوعين الماضيين، الكثير من الوظائف التي جرى إنشاؤها في السنوات الخمس الماضية تقريباً، الأمر الذي يعدّ علامة أخرى على مدى تأثير الإغلاق على العديد من العائلات الأميركية، التي تكافح لدفع تكاليف الإيجار والتأمين الصحي، في خضم انتشار الوباء.
ووسط كل ذلك، تشهد تجارة غير مأخوذة في الحسبان انتعاشاً قوياً، وهي تجارة الأسلحة النارية. صحيفة «نيويورك تايمز» أفادت بأن الأميركيين اشتروا، الشهر الماضي، ما يقرب من مليوني قطعة سلاح ناري، وسط مخاوف من أن يؤدي الوباء إلى اضطرابات محلية. فخلال الشهر الماضي، عندما كان الأميركيون يستعدون لمستقبل مجهول، ويزدحمون في محالّ البقالة لتخزين الضروريات المنزلية... كانوا أيضاً يقفون في الصف أمام متاجر الأسلحة. ووفقاً لتحليل البيانات الفيدرالية، تضاعفت مبيعات الأسلحة في العديد من الولايات، في آذار مقارنة بشهر شباط. ففي يوتا، مثلاً، تضاعفت ثلاث مرات تقريباً. أما في ميشيغان، التي أصبحت بقعة ساخنة لحالات فيروس «كورونا»، فقد زادت نسبة المبيعات أكثر من ثلاثة أضعاف.
الصحيفة لفتت إلى أن شراء الأسلحة النارية أثار مخاوف تتعلق بالصحة العامة، ودفع المسؤولين المحليين إلى مناقشة ما إذا كان يجب إغلاق متاجر الأسلحة، مؤقتاً. ولكن الضغط الذي مارسته شركات صناعة الأسلحة دفع إدارة ترامب إلى الإعلان أن هذه المتاجر أساسية، ويجب أن تظل مفتوحة، خلال إجراءات الإغلاق العام، إلى جانب الصيدليات ومحطات الوقود ومحالّ البقالة.