«هاي بلد؟ لأ مش بلد! قرطة عالم مجموعين»
زياد الرحباني (قوم فوت نام)


مع كل امتحان جديد نكتشف، نحن اللبنانيين، بؤسنا وانحطاطنا، ونتفرّج عاجزين على تحلّلنا، على موتنا الزاحف، فيما يرقص فرسان القبيلة على قبورنا، ويتركون خطر الانهيار المحتوم ــ على كل الصعد الاقتصادية والسياسيّة والبيئيّة والثقافية والأخلاقية والوطنيّة ــ ليتناحروا مع فرسان القبيلة المجاورة. ذلك أننا لسنا شعباً، ولا نستحق أن نكون كذلك، بل «قرطة عالم مجموعين» كما كتب زياد الرحباني في أغنيته الشهيرة.

نحن شعب يمجّد شيخ قبيلته وهو يتفرّج على المجارير تغمره، والحرائق تلتهمه، والتلوّث يسمّم جسده، والتعصب ينهش روحه، والطرقات تنهار عليه، والبحار تلفظه، والمستشفيات تقامر على جثّته، والمصارف تسرقه بالشراكة مع أسياده وحكامه وتجار الجوع، والنخب تزايد على عظامه بعدما باعت نفسها للشيطان... شعب رأى أمله الوحيد بالتغيير يذهب ضحيّة النرجسيّة والطفوليّة الثوريّة، وينقلب كرنفالاً لفّقه القوادون والسماسرة، وسطا عليه أباطرة النظام.
بالأمس تفرّجنا بلامبالاة على الكاوبوي ترامب يأتي على صهوة جواده الأغبر، يدوس على كراماتنا لينتشل جزّار الخيام من سجنه، ثم يقف منتشياً ليشكر حكّامنا «على تعاونهم»، هؤلاء المؤتمنين على مصالحنا الوطنية العليا. هذا الرجل هو إلهنا وسيّدنا، وحاكم مصرفنا المركزي وقائد جيشنا، بنفخة منه يصنع جوعنا أو ازدهارنا، بحركة من سبابته ينقذ عميلاً اسرائيليّاً من خيرة «أبطال هذا الشعب الأبي والسيادي»، من قبضة القانون والمحاسبة وعدالة الشعب. أي شعب؟ أي عدالة؟
ولم يكن ينقصنا إلا الوباء، كي يفقد هذا «الشعب» المستحيل، في «الوطن» المنكوب، ما تبقى له من رشد ومنطق. مع الكورونا، أفلتت من عقالها الخرافات والعصبيّات، وهيمن الفكر السحري والغيبي. وأطلّت الطائفيّة بوجهها القميء. كالعادة، الاعلام (المهيمن) هو شاهد الزور، يبرع في التهويل والتجييش، والتحريض والتزوير، واللعب على الخوف واستعراض الجراح، ممهّداً الطريق لأباطرة النظام وملوك الطوائف الذين يتعاملون مع الكارثة الجديدة، كفرصة ثمينة للمزايدة والنصب السياسي.
في لبنان المفلس والجائع والمحاصر، والمشرّع على «طاعون» الأزمنة الرقمية، هل تعرفون ما هو النقاش الوطني المهيمن اليوم؟ كلا ليس إمكانات المستشفيات وعدد الأسرّة، وسياسات الارشاد والوقاية، واستراتيجيات المواجهة الصحيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة... السؤال المطروح هو هل وصلتنا العدوى من إيطاليا أم من ايران! لماذا مات مسيحيون ولم يمت شيعة؟ هل هي الجرثومة التي «جاء بها جماعة إيران كي يقتلوا المسيحيين»؟ إسألوا محطّة المرّ. في اللاوعي الانعزالي (بعيداً من أي تعميم على أبناء طائفة معيّنة وبناتها طبعاً)، الجراثيم تأتي من عند «هؤلاء الأوباش المتخلفين»، فيما نمثّل نحن الحضارة والصحّة والنظافة و... «حب الحياة».
لذلك من الطبيعي أن نواصل نشاطاتنا ورياضتنا ونزهاتنا، ونذهب الى المطعم والنايت والجيم والكوافور والمول، ونواصل السفر والشوبينغ والتزلج، فيما الوباء يتفشّى. ما لنا وللوباء؟ فليختبئ «جماعة إيران المكورنون» في جحورهم! من الطبيعي أن ينتشر الوباء «عند هؤلاء الإيرانيين» في الضاحية، ومن المستهجن أن يصاب به أب يسوعي، أو مستشفى تابع لارسالية مسيحية. بل إنّها «مؤامرة طائفيّة» أن يتفشّى في جبيل وكسروان. هذا مخطط إيراني بلا شك، وينبغي التصدّي له ببسالة «سياديّة» كما فعل نواب جبيل وكسروان. «كورونا واحد متلك»، قالوا (بما معناه) لوزير الصحّة المسكين حمد حسن الذي نُقل عنه أنّه خلال مداولات مجلس الوزراء، ربّما يكون اقترح، في لحظة ما، من جملة ما اقتُرِحَ من حلول، عزل المناطق التي تشهد نسبة إصابات مجهولة المصدر. وهذا عين العقل. وفي هذه الحالة جبيل وكسروان، نعم صحيح! أين العيب في ذلك؟ ها هو رئيس اتحاد بلديات كسروان ـــ الفتوح، جوان حبيش يصرّح لموقع «الأخبار» أنّه مع العزل، معدّداً حالات انتشار الوباء في كسروان. لكن لا! موقف تجار الهيكل مختلف: «إعرف مع مين عم تحكي يا تبع حزب الله والتشادور والسلاح غير الشرعي وإيران وما الى ذلك. إذهب وتضبضب في الضاحية، قبل أن تسوّل لك نفسك عزل منطقتنا». (حوار خيالي طبعاً).
‫«الكلام عن تفشي المرض في هاتين المنطقتين تجنٍّ كبير»‬ قال زياد حوّاط لمحطّة «سياديّة» باب أوّل. قبل أن َيبيْض هذه التغريدة الخالدة: ‫«كلام وزير الصحة يحمل أبعاداً طائفية وسياسية خطيرة. فالأرقام التي وزعت أظهرت تفشي كورونا في أماكن أخرى غير جبيل وكسروان. (والله شو؟). هل له أن يخبرنا ماذا يحصل في مستشفى «الرسول الأعظم» قبل أن يعتبر منطقتنا موبوءة؟».‬ لم نفهم: من هو الطائفي هنا؟ وهيدا النائب الكول فيهم!‬‬
أتريدون مزيداً من الدرر؟ إسمعوا الطفل المعجزة نديم الجميّل «يتلأمن» على طريقة زكريا في «نزل السرور»: «معالي الوزير إحترم عقول اللبنانيين أو إستقل. كان من الافضل لو لم ترضخ للاعتبارات والضغوطات السياسية، ولو عزلت وأوقفت الطائرات والباصات الموبوءة‬». ألم أقل لكم؟ «لئيم»!
لكن كل ما سبق يمكن وضعه في كفّة، «وغضب» النائب خالد الضاهر وحده في كفّة. فبعد قرار ‫‬اغلاق جميع المحلات والمؤسسات في بلدة ببنين في قضاء عكار، لمنع انتشار الوباء بناءً على تعليمات رئاسة الحكومة والمحافظة، انتشر تسجيل صوتي منسوب إلى الضاهر، يرى في القرار «استهدافاً لببنين وعكار والشمال... (ويوضح لمن لم يفهم:) طرابلس يعني» (يا غيرة الدين!). ويضيف «نبي الانعزاليّة الجديدة»، واضعاً زميله الجبيلي في جيبه الأصغر: «الضاحية تعج بالمئات من المصابين الذين جاؤوا من إيران والعراق وسوريا، والمقاتلين والطلاب الذين كانوا هونيك، وما في شي عندن؟ هذا الذي يحصل تشويه لصورة ببنين، وتحويل الأنظار عن البؤرة الحقيقية للكورونا. وهذا أمر لا نقبل به أبداً. هذا إجراء غير مقبول أبداً». ‬
نواب جبيل وكسروان يتشاوفون على الضاحية، ونائب عكار أيضاً. يا جماعة مشكلتكم مع الضاحية أو مع كورونا؟ أهذا وطن أم مبغى؟ أي شعب هذا، كل جزء منه يرمي الجزء الآخر بـ «تهمة» الكورونا، مصرّاً على أن منطقته بمنأى عن الوباء؟ إلى متى يمكن أن يواصل هؤلاء المهرّجون سياسة الانكار والتجاهل؟
ألا يمكن لنا، نحن «شعب لبنان العظيم»، لمرّة في التاريخ، في مواجهة وباء هزّ المعمورة ولا نعرف ماذا يخبّئه لمستقبل البشريّة، ألا يمكن لنا، لن أقول «أن نتّحد» فهذا كثير، إنّما أن نتصرّف بعقلانيّة وأخلاق وحد أدنى من الحسّ الوطني؟ على الأقل، في هذه اللحظة، لنحاول أن نتضامن ونتكاتف: بماذا يمكن أن تختلف إصابة في عكار، عن إصابة في الضاحية أو في المتن أو في جونية أو في بيروت؟ إن الوطن هو المنكوب في النهاية. منكوب بنظامه، منكوب بنخبه، منكوب بثقافته الوطنيّة، منكوب في اقتصاده، منكوب في مستقبله، منكوب فينا جميعاً... ومنكوب بمئات الضحايا التي سيجرفها الوباء؟ إذا كان من خطر أكثر تدميراً من الـ COV2 في لبنان، فهو سرطان الطائفيّة الذي لن يترك لنا فرصة للنجاة. نعطي الكلمة مجدداً لشخصيّة رحبانيّة شهيرة هي «أبو الزلف» التي أدّاها الراحل زياد أبو عبسي في مسرحيّة «شي فاشل» (1983): «ولك بالبرغل في طائفية! بالعدس في طائفية... بس مش قد البرغل». فما بالكم بالخورونا؟