احتاج الوصول الى قرار التعبئة العامة وصرف النظر عن حالة الطوارئ ساعات طويلة بدأت من التاسعة والنصف مساء السبت 14 آذار حتى منتصف الليل في السرايا، وطوال نهار الاحد 15 آذار من العاشرة صباحاً حتى الثانية بعد الظهر في السرايا ايضاً، قبل الانتقال الى قصر بعبدا تمهيداً لالتئام المجلس الاعلى للدفاع، ثم جلسة مجلس الوزراء مساء. احتاج الامر كذلك الى تقليب مواعيد اجتماعي قصر بعبدا أكثر من مرة. بعدما كان مقرراً عقد المجلس الاعلى بعد مجلس الوزراء، اكتشف المسؤولون المعنيون فداحة الثغرة. لا مغزى لانعقاد المجلس الاعلى قبل مجلس الوزراء، لكونه يكتفي بإصدار توصية وإنهاء الى مجلس الوزراء الذي يحيل التوصية والإنهاء الى قرار للتطبيق. فأعيد ترتيب الاولويات.أوصى المجلس الاعلى للدفاع بالتعبئة العامة في البلاد، فاتخذ مجلس الوزراء قراراً بتطبيقها، للمرة الاولى في لبنان الذي اختبر اكثر من مرة اعلان حالة الطوارئ. ما بين هاتين الحالتين، جرّب لبنان ايضاً حالة حفظ الامن الذي نيط بالجيش فرضه اكثر من مرة في سنيّ الحرب وما بعدها، وخصوصاً اعوام 1975 و1982 و1991.
كان قرار السلطات بداية اعلان حالة الطوارئ شجع عليه رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة حسان دياب، في ضوء الاخطار المتصاعدة على السلامة العامة التي راح يتسبب فيها ويفاقمها وباء كورونا. الا ان مداولات المجلس الاعلى للدفاع ومجلس الوزراء، بعد مناقشات مستفيضة دُعي اليها القادة العسكريون والامنيون المعنيون باعلان حالة الطوارئ، الى المستشار القانوني لوزارة الدفاع الوزير السابق ناجي البستاني، أفضت الى تغليب خيار التعبئة العامة، المعلنة بدورها في معظم دول العالم التي تشكو من وباء كورونا.
عندما تمسّك رئيس الحكومة في اجتماعي السراي مساء السبت وقبل ظهر الاحد بإعلان «حالة طوارئ صحية»، أُخطِرَ بأن ليس في القانون اللبناني ـ خلافاً لدول أخرى ـ ما ينص على هذه الحالة، بل على حالة طوارئ عسكرية. مع ذلك، في القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء، رُوعي إصرار دياب، فبُني على الحاجة الى «حالة طوارئ صحية» تطبيق التعبئة العامة.
حُسم خيار التعبئة العامة في ضوء بضعة معطيات من بينها:
1 ـ لا تتوافر في انتشار وباء كورونا الشروط الموجبة لاعلان حالة الطوارئ المنصوص عليها في المرسوم الاشتراعي الرقم 52 الصادر في 5 آب 1967. في مادته الاولى ينادي المرسوم الاشتراعي بهذا الاجراء «عند تعرّض البلاد الى خطر داهم ناتج عن حرب خارجية، أو ثورة مسلحة، أو اعمال أو اضطرابات تهدد النظام العام والامن، أو عند وقوع احداث تأخذ طابع الكارثة». اما المادة الثالثة منه فتُخضِع البلاد وسلطاتها المدنية كلها الى «السلطة العسكرية العليا التي تتولى المحافظة على الامن»، فتصبح عندئذ «خاضعة للقوانين المعمول بها في الجيش في ما يتعلق بأنظمة الانضباط».
لم تكن قيادة الجيش موافقة على اعلان حالة الطوارئ لانتفاء الاسباب القانونية والموضوعية الموجبة لاتخاذ القرار. اضف ان التهديد الذي تتعرض له البلاد لا يعالج بقدرات الجيش، ولا بالصلاحيات الاستثنائية المنوطة به في حالة الطوارئ التي تفترض ـ اول ما تفترض ـ منع الاعتداء الخارجي او مواجهة عدو داخلي، ما يضع الإمرة العامة والمطلقة بين يديه. تتطلب مواجهة الوباء تضافر المجتمع كله بالمؤسسات الرسمية للدولة واجهزتها والمواطنين خصوصاً الذين يتحمّلون وزراً اساسياً في هذه المواجهة لمنع تفشي كورونا. بذلك يُعوّل على مسؤولية المواطنين اكثر منهم ادارات الدولة.
الوجه الآخر لتحفظ الجيش، تجنّبه الوصول الى الشروط الملزمة والحتمية لاداء دوره في حالة الطوارئ، واتخاذ تدابير صارمة تُعلّق تماماً السلطات المدنية والدستورية وتحيلها عليه، وتضع الحريات والتحري والمصادرة والتفتيش والاقامة الجبرية ومنع الاجتماعات والتجوّل والنشرات على المحك في سياق 12 إجراءً أوردها المرسوم الاشتراعي رقم 52 تصلح لجبه ثورة شعبية او حرب خارجية تشن على البلاد، فيما المشكلة الخطيرة الحالية تكمن في الوقاية اولاً واخيراً.
ثمة سبب اضافي للتحفظ، مؤداه عدم رغبة المؤسسة العسكرية، في ظل غياب الشروط القانونية والمواءمة الظرفية، تحمّل مسؤولية الخلل الذي رافق عمل السلطات السياسية والادارات المعنية، اذ ساهمت في توسّع انتشار الوباء، وكذلك التعثر في التدابير الاستباقية لتفاديه تفشيه.
تحفّظ الجيش عن إعلان حالة طوارئ لعدم توافر الشروط القانونية والمواءمة الظرفية


2 - تتحدث المادة الثانية في المرسوم الاشتراعي رقم 102 الصادر في 16 ايلول 1983 وتعديلاته (قانون الدفاع الوطني) عن اعلانين يمكن اتخاذهما في حال «تعرّض الوطن او جزء من اراضيه او قطاع من قطاعاته العامة او مجموعة من السكان للخطر». احدهما هو «حالة التأهب الكلي والجزئي»، والثاني «حالة التعبئة العامة او الجزئية لتنفيذ جميع او بعض الخطط المقررة». في ما ترعاه المادة الثانية عن الخطر الذي قد يتعرض له السكان ويبرر ادراج احتمالات شتى من بينها اخطار عسكرية او امنية او بيئية او صحية، فإن التعبئة العامة تصبح الاجراء المطلوب الذي يحتّم على المواطنين تحمّل مسؤولية المشاركة في مواجهة هذا الخطر. وهو ما راحت الحكومة اللبنانية والمسؤولون يحضون عليه منذ اليوم الاول لاكتشاف وباء كورونا في البلاد، بدعوة اللبنانيين الى عدم التجمع والاختلاط واتخاذ الحيطة والحذر تفادياً لتمدده.
3 - خلافاً لاعلان حالة الطوارئ التي تضع كل السلطات في يد الجيش، لا يعدو دور الاسلاك العسكرية والامنية في حالة التعبئة العامة الاستمرار في اداء مهماتهم الحالية، في ظل مرجعية السلطات المدنية. وهو ما يحدده قرار مجلس الوزراء بتكليفه السلطات والادارات العامة والمؤسسات العامة والبلديات واتحاداتها والاجهزة العسكرية والامنية تنفيذ التدابير تلك.
لحظ البند الاول من القرار إلزام المواطنين بالبقاء في منازلهم، وعدم التجول الا للضرورة القصوى للحؤول دون انتشار الوباء. نال هذا البند قسطاً وافراً من المناقشة لجهة اداة الإلزام، فاستعين - بناء على اقتراح ناجي البستاني - بالمادتين 604 و770 في قانون العقوبات، المرتبطتين بتسهيل انتشار الوباء ومخالفة التعليمات الادارية. طُرحت في مجلس الوزراء الاشارة الى هاتين المادتين في قانون العقوبات، ثم ارتُئي اغفالهما في النص تفادياً لبعث القلق في النفوس، مع التركيز على تطبيقهما بإزاء اي مخالفة للاجراءات. كذلك الامر بالنسبة الى حصر مدة التعبئة العامة باسبوعين، بيد انها قابلة للتجديد الى امد غير محدد.