ركّزت صحف إيطالية وأوروبية على ضرورة التعلّم من أخطاء كبرى، إدارية وصحية واجتماعية وقعت فيها إيطاليا وأدت إلى تحول الشمال الإيطالي إلى بؤرة فيروس كورونا وانتشاره في أوروبا، كأخطاء المستشفيات وإهمالها واستمرار فتح الحدود، ونوعية الحياة الاجتماعية وبدأت في المقابل دراسات إحصائية لمعرفة سبب ازدياد الوفيات ومنها مثلاً، نسبة المسنّين العالية في أوروبا، وخريطة الانتشار والمريض صفر وغيرها من بيانات تقدر فترات الذروة لانتشار المرض والفئات التي يصيبها، وارتداد العدوى على الركود الاقتصادي. هذا في إيطاليا المنكوبة. في لبنان الأمر معاكس تماماً.فمنذ العشرين من شباط، وكل ما يتعلق بانتشار الوباء لا يتعلق بالعلم، بل بالسياسة المحلية الضيقة، بدل التعامل معه كقضية وطنية. وفيما كانت قلة من السياسيين تواكب حقيقة ما يجري في الصين وإيطاليا، وتتعامل مع الأزمة على أنها خطرة في حد ذاتها وفي انعكاساتها على الواقع الصحي والاجتماعي والاقتصادي، سُجل غياب تام لأركان الدولة ومسؤولين حزبيين وسياسيين رفيعين عن مقاربة الحدث، قبل أن يلجأوا إلى استخدامه وسيلة جديدة للمناكفات السياسية، وتحول بعضهم ومنظريهم، إلى أطباء واختصاصيي أوبئة. وفيما دار السجال حول حزب الله ومسؤوليته عن عدم توقيف حركة الطيران من إيران إلى بيروت، جاء انتشار الفيروس في مناطق جبيل وبيروت وكسروان والمتن، أي لدى «المسيحيين»، ليثير قضية الوعي الاجتماعي في بيئة أفرغت شعار «حب الحياة» من مضمونه. استمر غير الواعين بالسفر من دون اتباع شروط الحجر بعد العودة منه والالتحاق بأعمالهم، والتزلج والسهر وعدم إقفال الملاهي الليلة والنوادي الرياضية والسباحة وصالونات التجميل ومراكز التسوق وعدم الالتزام بشروط البقاء في المنازل، كما كانت حال الطرق أمس لممارسة رياضة المشي مجموعات في يوم العطلة، من دون الالتزام بقواعد العزل.
وبما أنه ليس جديداً أن الدولة ليست على قدر المسؤوليات كما في كل كارثة تلمّ بلبنان، وأن حالة الطوارئ لا تؤمّن أدنى مقوّمات الحياة اليومية من كهرباء وماء على الأقل، أظهرت الأزمة الحالية، كيف تغلّبت السياسات الضيقة، وأصاب الفشل الأحزاب والقطاع الخاص من مصارف امتنعت عن تحويل أموال إلى طلاب لبنانيين محتجزين في الخارج، ومستشفيات وجامعات ومدارس تضغط للتعليم الالكتروني من أجل قبض الأقساط، ومؤسسات كنسية دينية ومدنية لم تكن على مستوى الخطر.
علامات استفهام كثيرة حول مسؤولية الأحزاب المسيحية عن الواقع الصحي والإداري المهترئ


حين طُرح احتمال إعلان حالة الطوارئ في لبنان، ساد الاعتقاد أن هذا الإعلان سيكون أمنياً للإمساك بالوضع لتطبيق حالة الإقفال التام كما جرى في إيطاليا مثلاً. الفارق الوحيد أن إيطاليا على ثقة أن الجيش سيلتزم قرارت الحكومة مجرداً من أي نوايا. في حين أن المناكفات والطموحات الرئاسية لعبت دوراً سياسياً في عدم اللجوء إلى هذا الخيار وتسليم الجيش أي مهمات تتعدى تطبيق الطوارئ الصحية، ولا سيما بعد تجربة 17 تشرين الأول. المناكفات السياسية انتقلت أيضاً إلى السجال غير المباشر بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية بعد إطلالة الدكتور سمير جعجع وغياب النائب جبران باسيل عن الحدث قبل أن يدعو إلى إعلان حالة الطوارئ الصحية، ويليه تحرك رئيس الجمهورية ميشال عون بدعوة مجلس الوزراء والمجلس الأعلى للدفاع إلى الانعقاد في قصر بعبدا، وإطلالته بعد توجيه انتقادات لغيابه، وبعد ساعات فقط على ظهور الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله للكلام عن وباء كورونا. السباق السياسي الانتخابي للخدمات والمعالجات تأخر كثيراً، شهراً على الأقل، قبل أن «يستفحل» الفيروس. لماذا لم نسمع كل البرامج الانتخابية الصحية إلا قبل يومين، والتنافس داخل الأحزاب، وداخل البيت الواحد، على أشده للدخول في معمعة المرض واستغلاله. علماً أن مبارزة التيار والقوات ومعهما الأحزاب المسيحية كافة، تطرح علامات استفهام كثيرة حول مسؤولية هذه الأحزاب - الممثلة في المجلس النيابي والتي تسلّمت وزارات خدماتية طوال السنوات الماضية، وخاضت معارك نقابية ذات صلة - عن الواقع الصحي والإداري المهترئ. في قضاء بعبدا وحده، الذي يمثله نواب حزبيون وخرج منه وزراء، مستشفى حكومي لم نسمع أن أحداً من الأحزاب المعنية طالب بتجهيزه وتفعيله ليكون على المستوى المطلوب. وتوجد أيضاً تسعة مستشفيات خاصة بعضها يعود لمؤسسات كنسية، وفي أزمة الوباء الحالي، لم يكن ممكناً الكلام عن واقع هذه المستشفيات التي تعاني أكثريتها من الإهمال وعدم وجود ما يتناسب مع حالات أقل تعقيداً من حالة الطوارئ الصحية، ما يغيبها تماماً عن خريطة الحاجة إليها عند الضرورة. ما ينسحب على هذا القضاء، ينسحب على غيره أيضاً، من الجنوب إلى الشمال، كما على واقع المستشفيات الخاصة والتابعة في جزء كبير منها للرهبانيات وللكنيسة، وبعضها يتحمّل مسؤولية انتشار الفيروس، والأخطاء المميتة التي حصلت فيه. لأن جزءاً أساسياً من مقاومة أي مجتمع يكمن في حالة المستشفيات، ووضع الطاقم التمريضي فيها الذي يعاني منذ سنوات في مؤسسات استشفائية رهبانية، فهل يعقل أن تطالب نقابة الممرضات والممرضين استباقياً باعتبار الحجز المنزلي لطاقمها إجازة «عمل طارئ وليس إجازة غير مدفوعة» لو لم يكن هؤلاء مهدّدين بلقمة عيشهم. كل ذلك والأحزاب «المسيحية» التي استثمرت في قطاعات الكهرباء والنفط والغاز والصحة لم تعر الاهتمام الخدماتي الكافي للبنية التحتية لقاعدة ناخبيها على مستوى ضيق، ولا على مستوى وطني عام. والمشكلة أن هذا القطاع الصحي الذي يعده المسيحيون باكورة إنتاجاتهم، أظهر في مرحلة الأزمة أنه في الصف الثاني، ما عدا مجموعة من الأطباء والاختصاصيين ذوي الضمير.
الأمر الثاني يتعلق بالكنيسة، وخصوصاً بعد انتشار الفيروس بشكل وبائي في عدد من المناطق، وفي وسط رهباني يسوعي، واستمرار انتقال رجال دين بين لبنان وإيطاليا وفرنسا. منذ الإعلان رسمياً عن الإصابات والكاثوليك في لبنان في صراع ديني مع الأرثوذكس حول المناولة المقدسة، كما نقاش حزبي عقيم وجاهل حول تراب القديسين. في اليونان، تدرس السلطات الكنسية التحايل على ضرورة الالتزام بالمناولة بالملعقة الذهبية، بدعوة المؤمنين إلى البقاء في منازلهم والتزام قرارات الحكومة. أما في لبنان، وبعد خطوة أولى لدى الموارنة بالمناولة باليد، واحتجاج «اللاهوتيين» من أبناء كسروان على قرار بكركي، فإنه يُفتح اليوم نقاش جديد حول استمرار القداديس. رغم أن الفاتيكان احتاط مسبقاً بوقف التجمّعات ومنع مشاركة الناس في احتفالات عيد الفصح، ظل البطريرك مار بشارة بطرس الراعي حذراً في دعوته الصريحة إلى وقف القداديس. من يقنع الموارنة والكاثوليك والأرثوذكس يوم الجمعة العظيمة بعدم الذهاب إلى الكنيسة، والتبرّك بلمس المصلوب وتقبيله، ومن يقنع هؤلاء بوجوب البقاء في البيت سوى قرار صادر بوضوح عن السلطات الكنسية؟ تخفيف عدد القداديس في الأسبوع لا يكفي، كما إجراءات بعض الأساقفة والكهنة، وقد تأخر العمل بها كثيراً. إلغاء القداديس حاجة ملحة، حين يتحول القداس عن غايته والالتهاء بالتطهير والتعقيم. فتح المزارات والأديرة «الشعبية» التابعة للرهبانيات، كالقديس شربل وحريصا، يجب أن يُمنع منعاً باتاً بدل الإبقاء على عادات تقبيل التماثيل والتبرك بوضع اليد. هناك قرارات حاسمة يجب أن تتخذها المرجعيات الدينية من كل المذاهب المسيحية في صورة فورية، قبل أن يستفحل انتشار الوباء.