تتقن بلدية بيروت بيع سكان العاصمة، واللبنانيين، أحلاماً ومشاريع قبيل الانتخابات البلدية والنيابية، أو في الذكرى السنوية لانتخاب المجلس البلدي. يخرج رئيس الحكومة سعد الحريري ليبشّر بباصات صديقة للبيئة خلال عام، ليقذفها بعد عام في الذكرى نفسها إلى عام جديد. يتحدث عن دراسات لقطار الأنفاق (مترو)، يفتتح خط الدراجات الهوائية الذي ينقطع في وسط الطريق، ويُغدق الوعود على أهل بيروت واللبنانيين. لكن، بعد مرور نصف ولاية المجلس البلدي للعاصمة، لا يبدو أن تغييراً طرأ على أحوال سكانها التي لم تشهد أي تحسّن يُذكر. حتى المشاريع الصغيرة نسبياً، التي لا تحتاج إلى الكثير من المال والوقت والجهد، لم تنفّذ البلدية أياً منها. مضت ثلاث سنوات من عمر «البلدية»، من دون أن يتمكن المواطنون من التمتع بشاطئ بيروت، ولا زادت مساحة الحدائق العامة الحقيقية إلا تلك التي تصلح لالتقاط الصور لا أكثر.
أخيراً اكتشف المجلس البلدي أنه يمكن فرز النفايات في بيروت إذا توافرت الإدارة اللازمة(هيثم الموسوي)

لا تشبه بلدية بيروت أي بلدية أخرى، لجهة ميزانيتها الضخمة وجهازها الإداري الكبير وارتباطها مباشرة بمجلس الوزراء ووزارة الداخلية ومجلس الإنماء والإعمار ومجلس تنفيذ المشاريع الكبرى لمدينة بيروت، وأيضاً لجهة قدرتها على تمرير مشاريعها بتسهيل من تيار المستقبل ورئيس الحكومة. إمكانات كهذه كان ينبغي أن تُحدِث فارقاً في العاصمة وفي حياة أهلها وسكانها. بدلاً من ذلك، «أنجزت» البلدية الحالية، بعد انقضاء نصف ولايتها، مشاريع لا تزال كلها «قيد التنفيذ» و«قيد التلزيم» و«قيد التحضير»!
في معرض الدفاع، تؤكد مصادر أن هذا «الاستثناء» الذي تتمتع به البلدية هو نفسه سبب مشاكلها. فمرور القرارات البلدية عبر روتين إداري طويل قبل أن تصل إلى مرحلة التنفيذ، يفتح شهية كثيرين على التدخل، فضلاً عن الالتباس «التاريخي» في العلاقة بين محافظ العاصمة ومجلسها البلدي، وعن التباس آخر لا يقلّ أهمية يتمثّل بتعدد المرجعيات السياسية لأعضاء المجلس. كل هذا يُدخل أيّ مشروع في «حفلة» أخذ وردّ تستغرق وقتاً طويلاً قبل أن يصل إلى خواتيمه السعيدة... إن وصل!
لكن هذا، على صحّته، لا يبرّئ - بحسب معارضين للبلدية - المجلس البلدي ورئيسه من تهمة «الكسل»، واقتصار عمله على «الشغل التقليدي» للبلديات الريفية، كالتزفيت والترقيع ورشّ المبيدات وغيرها، أو العمل كماكينة انتخابية لتيار المستقبل عبر توزيع المساعدات. فيما تغيب المشاريع «الاستراتيجية» التي يتوقّع من بلدية لديها إمكانات ضخمة القيام بها، كأن تبادر، مثلاً، إلى إنشاء مبانٍ سكنية لذوي الدخل المحدود من أبناء المدينة لمساعدتهم على البقاء فيها بدل أن «يتشتتوا» بين عرمون وبشامون ووادي الزينة والناعمة!
عيتاني: صلاحياتنا محدودة!
لرئيس المجلس جمال عيتاني، رأي مختلف في هذا المجال. فالسلطة التقريرية شيء (اي المجلس البلدي) والسلطة التنفيذية (أي محافظ بيروت) شيء مختلف تماماً. لذلك، «وظيفة الرئيس والأعضاء هنا تعنى بالشؤون البلدية، كإصلاح الحفر في الطرقات، وتزفيت الشوارع، إصلاح الأرصفة، الإنارة، رشّ المبيدات، رفع مستوى الخدمات وتأهيل البنى التحتية والتخطيط عبر تقديم مشاريع استثمارية»، يقول عيتاني لـ«الأخبار». أما تنفيذها، فبعهدة المحافظ، ويضيف: «ويمرّ بمسار طويل يبدأ بالداخلية فديوان المحاسبة ليصل إلى المحافظة ويبدأ العمل به من دون إبلاغنا أو معرفتنا إلا اذا رأينا الأعمال تجري بالعين المجرّدة». فالمحافظ زياد شبيب هو الذي «يوقّع العقد ويدفع للمتعهد ويراقب التنفيذ ويتسلم الأشغال النهائية. وبعد خروج المشروع من بين أيدينا لا تعود لنا صلة به، بما فيه إخلال المتعهد بأي شرط أو عدم إنجازه الأعمال المطلوبة، فتلك أمور بيد السلطة التنفيذية». هي آلية قديمة ومهترئة، بحسب الريّس، وينبغي تحديثها. فضلاً عن أن جزءاً من تلك المشاريع، بيد مجلس الإنماء والإعمار «الذي يتأخر بتنفيذها، كمحطة تكرير مياه الصرف الصحي، وهو ما يؤدي إلى صبّ المياه المبتذلة في البحر. وصلنا إلى حلّ مؤقت نعمل على تنفيذه حالياً عبر إبعادها قدر المستطاع عن الشاطئ إلى قلب البحر بواسطة أنابيب تبرع بها النائب فؤاد مخزومي». ويشير عيتاني إلى مشاريع أخرى «كالمكننة والموقع الإلكتروني للمجلس. الأول عالق لدى المحافظ، والثاني طلب أن يشغّله شخصياً من دون أن نرى أي شيء بعد». يشتكي الريّس من البطء في تمرير مشاريعه، بعضها يأخذ سنة ونصف سنة ما بين الداخلية وديوان المحاسبة والمحافظ طبعاً، وبعضها بحاجة لحلّ شامل لا يمكن بيروت وحدها تنفيذه، كخطة النقل العام التي يفترض أن تبدأ من طبرجا. رغم ذلك، «بوعد الناس رح يكون في باصات في بيروت السنة الجايي». أما الإنجازات التي يعددها عيتاني، فهي: 1- «مليون دولار سنوياً للجمعيات، وبدأنا الآن بتقديم مساهمات للبيارتة (على السجل وليس السكان) الذين يعانون من فشل كلى أو سرطان»،
2-عيادات للبيارتة في بشامون.
3- أنجزنا دفتر شروط لاستقدام 12 سيارة إسعاف مجهزة كمستشفى متنقل.
4- تأهيل للبنى التحتية في رأس النبع وجان دارك.
5- حديقة المتروبوليت إلياس عودة وموقف للسيارات تحت الأرض (بدأ العمل عليها المجلس السابق).
6- رشّ المبيدات لمكافحة الحشرات والقوارض (تدخل في إطار الصيانة الدورية)».
تلك هي «المشاريع» التي انتهت الأعمال بها، فيما يسرد الريّس عشرات «المشاريع» قيد التنفيذ والتحضير التي لا يمكن ضمان انتهائها في عهده، نظراً إلى البيروقراطية البطيئة التي تحدث عنها بنفسه. أمام هذه «المشاريع، إن كنت مواطناً بيروتياً، هل تعيد انتخاب هذا المجلس ورئيسه؟»، «نعم»، يجيب عيتاني، « لكن ربما أعمل على تغيير بعض أعضاء المجلس الحالي، فللأسف غالبيتهم باستثنائي أنا ونائب الرئيس غير متفرغين للعمل في البلدية، فيأتون خلال الاجتماع الأسبوعي ليبدوا ملاحظاتهم ويرحلوا. في حين أن المطلوب أن يجولوا في المناطق وينقلوا حاجاتها والمشاريع التي من الممكن تنفيذها فيها».
البلدية تكتشف الفرز
كان يمكن التغاضي عن قلة المشاريع والإنجازات لو أن البلدية استغلت، على سبيل المثال لا الحصر، أزمة النفايات لتحويل بيروت إلى مدينة صديقة للبيئة، ولا سيما أن عشرات الجمعيات المدنية والبيئية تنشط فيها. لكن المجلس البلدي اختار ما يبرع به، وهو ألّا يفعل شيئاً، وألا يقدِّم حلولاً، باستثناء تلك التي تنادي بحرق «الأخضر واليابس». فكانت المحرقة الحلّ النموذجي بالنسبة إلى رئيس البلدية وبعض الأعضاء. وعند السؤال عن الفرز، يأتي الجواب بأن «الناس لا يريدون الفرز». يستسهل أنصار المحرقة رمي الإجابة السريعة، بدلاً من وضع خطة محفزة على الفرز وإجبار شركة «رامكو» على التزام عقدها أولاً، الذي يحتوي على بنود خاصة بالفرز. أخيراً، كلّفت البلدية إحدى الناشطات في الجمعيات المدنية تشجيعَ حيّ واحد من أحياء بيروت الكثيرة على الفرز. تتقاضى الأخيرة مبلغاً من البلدية لقاء هذا العمل، وتتقاضى أيضاً مبلغاً شهرياً من السكان! المبادرة الوحيدة الإيجابية هنا، انتباه المجلس البلدي إلى قدرته على التخفيف من أكياس النايلون، عبر منعها من «سوبرماركات» بيروت مقابل استعمال أكياس القماش، علماً أنه لم يبدأ التطبيق بعد. فيما يعمل محافظ بيروت، زياد شبيب، بالتعاون مع الجمعيات الأهلية ومتعهد جمع النفايات من العاصمة، أي «رامكو» على التسويق لبدء الفرز في بدارو. إذاً، الفرز ممكن، وسكان بيروت يتجاوبون عندما يبادر أحد باتجاههم، وليس الأمر بالصعوبة التي تتحدث عنها بلدية بيروت لتبرير كسلها أولاً، وعدم رغبتها في بذل أي مجهود ثانياً، ربما لتبرير لجوء البعض فيها إلى الحلول التي لا تحتاج لمجهود، كحرق النفايات، والتي تدرّ أموالاً في الوقت عينه.



البلدية بلا مبنى موحّد
أعضاء سابقون وحاليون في مجلس بلدية بيروت يعدّدون رزمة قرارات بقيت حبراً على ورق، لا لشيء سوى أن البلدية لا تطمح إلى أن تكون أكثر من مجلس للمحاصصة على شكل السياسة العامة في البلد. لذلك، جُهِّز قرار بإنشاء شرطة خاصة ببلدية بيروت، وكان قد حصل على موافقة وزارة الداخلية التي كلفت عميداً لقيادة الشرطة البلدية، ثم أقالته بعد أشهر. ثمة من يربط عدم التنفيذ بأسباب طائفية، أبرزها تسليم رئاسة الشرطة للطائفة المسيحية من منطلق «التوازن» مع منصبَي قائد فوج الإطفاء وشرطة بيروت التابعة لقوى الأمن الداخلي. قرار آخر لم ينفَّذ يتعلق بإقامة مبنى البلدية الموحد في منطقة المدور، ويُعَدّ أحد أهم المشاريع، نظراً لدمجه كل إدارات بيروت، وتسهيله أمر المواطن عند إجراء المعاملات. علماً أنّ الأرض المنويّ استعمالها مؤجرة بالكامل لشركات، ويتطلب إخراجها منها 5 سنوات أو أكثر ودفع تعويضات هائلة.


البلدية والوزارة... «المَونة» لا القانون
يقول أعضاء في المجلس البلدي لبيروت إن وزارة الداخلية تقف في الكثير من الأحيان عائقاً في وجه إقرار بعض المشاريع اذا لم يكن ثمة اتفاق معها على المتعهد الذي سينفّذ المشاريع ولم يكن حائزاً رضاها. لذلك ينام بعض المشاريع سنة وسنتين الى حين «سيسرة» الأمور بالتراضي. «القانون واضح في ما خصّ دور وزارة الداخلية خلافاً لما يدّعي البعض»، يشير أحد وزراء الداخلية السابقين، إلى أن «مهمتها الرقابة فقط ولا يمكنها بأي حال من الأحوال التدخل في عمل البلدية». وبلدية بيروت شخصية معنوية مستقلة تحظى باستقلال مالي وإداري. يضيف: «لوزارة الداخلية مهل زمنية محددة للرقابة، وبمجرد تخطّيها هذه المهل من دون الرد بقرار معلّل، يعتبر القرار نافذاً. وحالات المصادقة هي الاستثناء. إلا أن بعض المجالس البلدية ترتبط معنوياً بوزير الداخلية، أي عن طريقة «المَونة»، ولا تتخذ قراراً بانتظار موافقته، فيما يمكنها السير بقراراتها بالحق الذي يكفله لها القانون. وهذا سبب للتأخير في بتّ المشاريع». أما الحديث عن الروتين الاداري الممل، فهذه عبارة "مطاطة"، لأنه يجب على رئيس البلدية والأعضاء متابعة مشاريعهم لإيصالها الى خواتيمها السعيدة، ويتطلب ذلك متابعة جدّية من قبلهما شخصياً، لأن القانون ألزم الإدارات بمهل معينة؛ لكن في حال عدم المتابعة، يمكن للمعاملة أن تأخذ عاماً أو أكثر في غياب الحكومة الإلكترونية وكثرة الإحالات والتواقيع». من جهة أخرى، يقول الوزير السابق إن «أي تأخير للمعاملة أو المشروع عند المحافظ يتحمّل مسؤوليته هو، لأنه إجراء غير قانوني ويستحيل أن أقتنع أنه يمكن لمحافظ "تنويم ملف" فيما يخضع بشكل دائم لسلطات الرقابة كديوان المحاسبة والتفتيش المركزي». وبنظره، يدرك المحافظ هذا الأمر جيداً ولا يوقف أيّ قرار إلا ما يضرّ بالأمن. غير أن الحساسية التاريخية بين المحافظ ورئيس البلدية ترتب مواقف مسبقة تدخل في غالبية الاحيان في إطار تضارب الصلاحيات.