«عالسكت»، كاد وزير المال علي حسن خليل يمرّر مشروع مرسوم «خصخصة الجمارك» على طاولة مجلس الوزراء. في الجلسة الأخيرة للمجلس، التي عقدت قبل أسبوعين، كان البند الـ15 على جدول الأعمال مخصّصاً لمشروع مرسوم يتعلّق بـ«نظام إلزامي لمعاينة ومراقبة الحاويات والبضائع والمركبات في الموانئ اللبنانية». البند «سُحِب» في اللحظات الأخيرة، غير أن «تطييره» لم ينه الجدل حوله ولا قلق «الممسوسين» بتداعياته المستقبلية، في حال إقراره، بدءاً بـ«أعلى الرتب» في المديرية العامة للجمارك، مروراً بمخلّصي البضائع، ووصولاً إلى «العتّالين».ما حدث قبل أسبوعين واحدة من جولات كثيرة تحصل منذ سنوات. في كل مرّة يدرج فيها هذا المشروع على الجدول يُعاد سحبه، ولكن ليس إلى «أبد الآبدين» بحسب متابعيه. إذ ثمة «إصرار على تمريره بطريقة أو بأخرى». وهذه المرة، «الوضع أصعب» خصوصاً أنه مسنود بموافقة مجلس شورى الدولة (تشرين الثاني 2017)، وبمباركة المجلس الأعلى للجمارك، صاحب المشروع في الأصل، الداعي الى «اتخاذ الإجراءات التنفيذية لمشروع المرسوم وتحضيره».
الخوف من مشروع مرسوم «نظام معاينة ومراقبة الحاويات والبضائع في الموانئ اللبنانية» لا يأتي من فراغ. ثمة «كلمات - مفاتيح» كافية لإثارة الخشية، منها الجهة التي ستؤول إليها مهمة إدارة نظام معاينة ومراقبة الحاويات والبضائع والمركبات. المشروع يأتي في 10 مواد، اثنتان منها تختصران بيت القصيد: المادة الثالثة تتعلق بهوية هذه الجهة، وهي «مؤسسة خاصة بإنشاء وتشغيل نظام معاينة ومراقبة الحاويات والبضائع والمركبات لدى دخولها إلى الأراضي اللبنانية وخروجها منها وخلال عبورها فيها، تحت الأوضاع الجمركية كافة». والمادة الخامسة التي تستعرض واجبات المؤسسة المعتمدة «حيث تتولى تشغيل نظام المعاينة والمراقبة (…) وتمويل وتركيب وادارة وتشغيل التجهيزات والأنظمة والبرامج كافة، وتأمين الموظفين والعمال وسائر الأدوات والمعدات لتشغيل هذه التجهيزات والأنظمة والبرامج».
يمكن ترجمة هذا الجزء، عملياً، على النحو التالي: تعمد الدولة اللبنانية إلى تكليف شركة خاصة للقيام بمهامها هي. بمرسوم وزاري، «تبيع الدولة مهام الجمارك»، يقول المدير العام للجمارك بدري ضاهر. وتكون عملية البيع من خلال إيكال المهام المنصوص عنها في قانون الجمارك (4461) إلى شركة ستفعل ما تفعله أصلاً المديرية العامة، ومعها «طفرة» من الشركات الخاصة. وتعطيها - علاوة على ذلك - «Bonus» عبر السماح لها باستيفاء «جعالة مباشرة من أصحاب العلاقة لدى القيام بخدمة معينة ومراقبة الحاويات والبضائع والمركبات لصالح إدارة الجمارك»، وذلك «طيلة مدة الإلتزام» التي يحددها المشروع بما «لا يزيد على عشر سنوات»، على أن تعود التجهيزات والإدارة إلى الدولة. وهذه «نكتة سمجة أخرى»، خصوصاً أنه «ولا مرة شركة خاصة تلزّمت ورجعت فلت»، يقول غسان سوبرة، نائب رئيس نقابة مخلصي البضائع. هي نتيجة تجربة لبنانية بحتة، يستحيل معها «كل مؤقت دائماً».
من هنا، ينبع خوف الموظفين والعاملين على خطّ المعاينة والمراقبة. وهو خوف يتأتى من ناحيتين: من مفهوم الخصخصة ومن المساس بلقمة عيشهم. وقد أثبتت كل خصخصة أنها تهديد مباشر للموظفين والعاملين في أي قطاع، انطلاقاً من تجربة فشل التكامل بين القطاعين العام والخاص، إذ أن الأخير غالباً ما ينتهي بابتلاع الأول بأمه وأبيه.

خصخصة «سكانر»!
يفترض أن تقوم الشركة المكلفة بتجهيز المرافق الحدودية التي يجري تحديدها بـ«سكانر» للكشف الشعاعي على بضائع الحاويات والمركبات، على أن تمنح صاحب العلاقة بعد ذلك إفادة. وقد بررت «الأسباب الموجبة» للمرسوم هذا اللجوء للشركة الخاصة بعدم قدرة الدولة على تجهيز المعابر، إضافة إلى مكافحة التهرب الضريبي ومواكبة المعايير العالمية التي تنص عليها منظمة الجمارك العالمية. مصدر في المجلس الأعلى للجمارك يقلّل من شأن كل حديث عن الخصخصة، انطلاقاً من أن الأمر «مجرد أداة تصوير تزودنا بصورة، هذا كل ما تفعله». ويؤكد «بكلمتين» أن المشروع المطروح «لا هو بيع ولا هو خصخصة للجمارك التزاماً بتوصيات منظمة الجمارك العالمية التي تمنع منعاً باتاً تنازل الدولة عن إداراتها السيادية. وهذا المرفق مرفق سيادي». أما «كل ما في الأمر أن لدينا سكانر ما زلنا منذ 2007 غير قادرين على صيانتها بسبب الكلفة. فلماذا على الدولة تحمّل هذه المسؤولية؟ نكلف شركة عملها فنّيّ لتعطينا الصورة. في النهاية نريد الصورة بصرف النظر عن طريقة الحصول عليها». ببساطة، تشبّه مصادر المجلس الأعلى الوضع القائم بـ«واحد يملك آلة تصوير بالمكتب بتضل تتعطل وتصويرها سيئ، لذلك كان اللجوء إلى شركة تجهز المرافق بسكانر هي أداة بيد الكشاف ولا تحل مكانه أو مكان أي عامل آخر».

المرسوم وقانون الجمارك: أين التكامل؟
ثمة فارق بين البساطة التي تتحدث بها مصادر المجلس الأعلى وبين قلق الموظفين والعاملين في المرافق الحدودية. تتحدث المصادر في المديرية العامة للجمارك عن «عدم جدوى هذا التكليف، خصوصاً أن مهمة مراقبة البضائع وتصويرها في صلب مهامنا». وتستند الى قانون الجمارك (المرسوم 4461). إذ تحصر الفقرة الثانية من المادة 138 «معاينة البضائع بموظفي الجمارك المختصين دون غيرهم، ويتم ذلك داخل نطاق المكاتب الجمركية والأمكنة التابعة لها وعند دخول المنافذ الجمركية أو الخروج منها». وهذه تشير الى تضمن مشروع المرسوم أول مخالفة صريحة للقانون، وليس آخرها. ففي تتمة المادة 138، وتحديداً الفقرة الثالثة التي تعيد تأكيد «حق المصلحة بالمعاينة (…) على أنه يمكن أن يكون الكشف جزئياً أو كلياً حسب تقدير المصلحة أو وفقاً للتعليمات التي تضعها الإدارة». وانطلاقاً من هنا، يجب أن «يراعى في التعليمات المذكورة في الفقرة السابقة ضرورة تيسير التجارة دون الإخلال بالرقابة الفعالة، ويسترشد بذلك بالأساليب الحديثة في تقدير وإدارة المخاطر لتحديد البيانات الواجب التدقيق فيها والبضائع الواجب معاينتها (...)» (الفقرة الرابعة).
مخالفات بالجملة يوردها مشروع المرسوم. ففيما يشير إلى خضوع جميع «الطرود» للمعاينة، يحمل القانون الخيارين: الكشف الجزئي والكلي «في حال ارتأت المصلحة ذلك» (الفقرة الثالثة من المادة 138) و«بصورة انتقائية كلما رأت الجمارك حاجة أو فائدة من اللجوء إلى ذلك» (الفقرة هـ من المادة 4). وبحسب التجارب، «لا يخضع أكثر من 10% من البضائع للكشف في حال الشك فيها. أما بقية البضائع التي تمرّ سريعاً فهي معروفة المصدر والمستورد كما نوعية البضائع». ثمة جانب آخر تلفت إليه مصادر المديرية العامة، إذ أن المصلحة غالباً ما تلجأ للكشف الشعاعي «في الحالات الأمنية، مثل الكشف عن السلاح أو المخدرات، وليس معمولاً بها من أجل التهرب الضريبي كونها تستخدم بنسب ضئيلة لهذا الموضوع». وهو «ما يطرح علامات تساؤل حول الجدوى منها، فهل المطلوب هو الكشف الأمني؟» هذا السؤال يعني الكثير لمديرية الجمارك، فأن تسلّم «داتا» كاملة لشركة خاصة ليس معلوماً حتى اليوم من سيراقب عملها، يعني من الناحية الأمنية أن «معلومات التجار باتت مكشوفة، ومن يضمن تالياً عدم استثمارها أو بيعها لجهات أخرى»، وهو ما يخالف نص القانون عن «حماية السرية التجارية»، بحسب أحد المسؤولين في المديرية العامة للجمارك. والسؤال هنا «من هو القديس الذي سيراقب عمل الشركة؟ وكيف ستكون آلية المحاسبة؟»، على حدّ قول رفيق أبي صالح، رئيس نقابة الترانزيت في المرفأ.
يختصر المسؤولون في المديرية العامة بالقول «الإكس راي لا يكافح التهريب. والأولى هنا مكافحة التهريب عند المعابر غير الشرعية، التي قدرها وزير المال بـ124 معبر تهريب». يتهكم هؤلاء على «السبب الموجب»، انطلاقاً من تجربة طويلة تفيد بأن «من يهرّب عادة يكون مسنوداً سياسياً... وطول عمرهن كانوا بيدوروا السكانر ويطفوه بس بدهن».
ستتقاضى الشركة المكلفة مهام الجمارك «جعالة» عن كل «كونتينر» ما يعني رسماً إضافياً على المستورد والمستهلك


ثمة ناحية أخرى تطالها مهمة الكشف الكلي، وهو ضرب مبدأ «التيسير التجاري». فإخضاع كل البضائع للكشف هو أيضاً مخالف لقانون الجمارك الذي ينص على «المعاينة بشكل سريع ومبسط وبصورة انتقائية (…) دون الإخلال بالرقابة الفعالة، على أن يسترشد بذلك بالأساليب الحديثة في تقدير وإدارة المخاطر». والسؤال هنا: إن كان الكشف كلياً، فماذا عن مهمة تقدير إدارة المخاطر التي «هي أحد المهام الأساسية للجمارك». وفي ظل تغييب التقدير، ستخضع كل البضائع للكشف، مع ما يعنيه ذلك من تأخير في تخليص البضائع وفي فرض تكاليف إضافية. ليس آخرها «الجعالة» التي ستتقاضاها الشركة عن كل «كونتينر» بحسب مواصفاته ووزنه. ما يعني «رسماً إضافياً يفرض على المستورد، الذي سيفرضه بدوره على المستهلك»، يقول جورج صادر، رئيس نقابة مخلصي البضائع الجمركية. ينطلق صادر من الجعالة للحديث عن التحجيم المتوقع لعمل المخلصين، مشيراً إلى أن ثمة مادة قانونية (المادة 5) تقول بأن «الشركة تتقاضى الرسم مباشرة من أصحاب العلاقة لدى القيام بخدمة المعاينة والمراقبة». وهنا، يأتي المساس بعمل مخلصي البضائع، إذ بحسب هذه المادة، تصبح العلاقة بين المستورد والشركة مباشرة «وهو الأمر الذي يلغي عمل المخلّصين الذين كانوا حلقة الوصل بين الجمارك والمستورد أو المصدّر».
في الآونة الأخيرة، اجتمع ممثلو نقابة مخلّصي البضائع مع المجلس الأعلى، فكان الرد بأن «لا مساس بعمل المخلّصين». إلا أن النقابة آثرت بأن يكون «التوضيح خطياً، خصوصاً في ظل وجود التباس في بعض المواد التي تركت مهام مخلصي البضائع إلى الشركة»، منها ما يتعلق بالتواصل المباشر مع أصحاب العلاقة، ومنها ما يتعلق بتقدير القيمة الفعلية للبضائع التي أحيلت إلى الشركة هي الأخرى. يخاف هؤلاء من «سيرة» الشركات الخاصة، ويستعيدون بعض النماذج، وليس آخرها مثلاً إحدى شُرك البريد السريع، فـ«أول ما بلشت هيدي الشركة كانت بريد وصارت تخليص وترانزيت واليوم نحنا منشتغل عندها». يخاف هؤلاء من تكرار السيناريو، عندها «ما بيعود فيه لزوم لمخلّص بضائع والشركة الخاصة بترميك برا وبتجيب موظفيها». وما يعزز تلك الفرضية، هو تغاضي الدولة عن «حق» الكثير من مخلّصي البضائع بالحصول على رخص، إذ كانت آخر مرة فتح فيها الباب للترخيص في العام 2004.



النموذج المكرر
تعيد الدولة صياغة نموذج آخر من نماذج الخصخصة: تبقي على جهازها وتوكل عمله إلى شركة خاصة. صحيح أن لكل نموذج «فرادته» ومراسيمه، إلا أنه في معظم الأحوال تتشابه السيناريوهات. في الحالة هذه، يمكن استعادة سيناريو وزارة الإتصالات - هيئة أوجيرو (رغم أن الأخيرة ليست شركة خاصة)، ففي تسعينيات القرن الماضي، أعاد رئيس الحكومة الراحل، رفيق الحريري، إحياء أوجيرو من خلال تكليفها بأعمال الصيانة للمنشآت والتجهيزات العائدة لوزارة البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية (…) على أن تحدد هذه الأعمال بموجب اتفاقيات بين الوزارة والهيئة. بعد الإحياء وبمرور السنوات، صارت أوجيرو هي «اليد التنفيذية لوزارة الإتصالات». بعدما انتقلت إليها بالتدريج المهام التي كانت تقوم بها الوزارة. وقد نتج عن تلك التركيبة أن قامت الدولة بتكليف موظفيها بالعمل لدى أوجيرو لإنجاز المهمات التي تطلبها وزارة الإتصالات!، على أن يتقاضى هؤلاء «بدل خدمات»، يضاف إلى رواتبهم التي يتقاضونها من الوزارة. فعلياً، بهذا النموذج، قامت الوزارة بتأجير موظفيها للقيام بما هو في صلب مهامهم وضخمت عمل هيئة أوجيرو تالياً.
في النموذج الحالي، تقوم الدولة بـ«تشليح» موظفي مديرية الجمارك مهام مراقبة ومعاينة ما يدخل إلى الأراضي اللبنانية وما يخرج منها وإعطائها إلى شركة خاصة. ما تقوم به الدولة لا علاقة له بمرفق دون غيره. ثمة نهج، فالدولة بقرار سياسي تفكّك أنظمتها الوظيفية والاجتماعية، من تفكيك نظام الأجور إلى التقديمات إلى نظام التقاعد. ومقابل كل ذلك، تكبّر القطاع الخاص.
أما في ما يخص هذا المرفق بالذات، فهناك من يقارب الموضوع من ناحية أخرى لها علاقة بمكانة «الجمرك»، إذ أن هذا الأخير هو أحد المصادر الأساسية لـ«الدولرة». وهو المصدر الثاني، بعد الهاتف الخلوي، من ضمن المصادر المحدودة لتحصيل الدولار. من هنا، يمكن تفسير اللجوء لـ«تسليمه» لشركة خاصة. ففي الحالة اللبنانية، أكثر الأماكن التي يحكى بتخصيصها هي تلك المتعلقة بمصادر الدولار: الإتصالات والمرفأ والمطار. وهذا يظهر لاحقاً من خلال تركيب السلطة والنفوذ، فمن يتحكم بمصادر الدولار يتحكم بالسلطة والنفوذ تالياً.