المعمار جاد تابت *أقرّت اللجان النيابية مشروعي قانونين من شأنهما أن يؤثرا تأثيراً بالغاً على التنظيم المدني واستعمالات الأراضي في كافة المناطق اللبنانية، وأن يؤدّيا الى مزيد من التشويه للبيئة المعمارية وزيادة الضغط على شبكات البنى التحتية والمواصلات والنيل من السلامة العامة.
المشروع الأول (الموضوع على جدول أعمال جلسة اليوم) يرمي إلى تسوية مخالفات البناء الواقعة بين 13/9/1971 و31/12/2018. والثاني، المسمى «قانون الواجهة الخامسة»، يتعلّق بالسماح بإضافة طابق جديد على الأبنية الموجودة والمستحدثة في كافة المناطق. وقد كان لنا، كنقيب للمهندسين، موقف واضح خلال اجتماعات اللجان التي ناقشت المشروعين وأقرتهما، أكدنا فيه أنه لا يجوز التفريط بأبسط مبادئ التنظيم المدني والتساهل مع مستلزمات السلامة العامة مقابل استيفاء رسوم إضافية لحساب صندوق الخزينة المركزي والبلديات.

تحويل الاستثناء الى قاعدة؟
يرتكز مشروع قانون تسوية مخالفات البناء على المبادئ نفسها التي اعتمدها القانون رقم 324 (24/3/1994) الذي هدف الى تسوية مخالفات البناء الناتجة عن الظروف الاستثنائية التي مرّت بها البلاد خلال سنوات الحرب. وإذا كانت لقانون 1994 مبرراته نظراً للحالة الاستثنائية الناتجة عن غياب الدولة وأجهزة الرقابة، إلاّ أن المشروع الجديد من شأنه أن يحوّل الاستثناء إلى قاعدة. إذ كيف يراد للمواطن أن يحترم أنظمة البناء ويلتزم تطبيق ما نصّت عليه عندما يدرك أن المشرّع يصدر، دورياً، قوانين لتسوية المخالفات. فمشروع القانون المقترح هو السادسمن نوعه منذ عام 1964. والاستمرار في هذا النهج من شأنه أن يطال صدقية القوانين ويضرب عرض الحائط بهيبة الدولة.
ما يزيد الأمر سوءاً أن الأسباب الموجبة تنص على ان من أهداف المشروع الجديد تسوية المخالفات التي شيدت استناداً الى تصاريح واجازات غير قانونية، كالتعاميم المتعاقبة التي أصدرها وزراء الداخلية ومسؤولو الأجهزة الأمنية أو تلك الصادرة عن مراجع غير مختصة، وكان لنقابة المهندسين موقف واضح بأن هذه التعاميم تكرّس الفوضى العمرانية وتشجّع على مخالفة القوانين، ثم تفرض غرامات ورسوماً مضاعفة لتشريع هذه المخالفات.
يشمل مشروع القانون تسوية كافة أنواع المخالفات على الأملاك الخاصة بما فيها مخالفات عوامل الاستثمار وإقامة البناء على عقار غير صالح للبناء ومخالفة الارتفاع الأقصى وعدد الطوابق التي تحدّدها أنظمة المنطقة والمخالفات التي تطال الأقسام المشتركة للبناء. كما تشمل الأبنية المنشأة ضمن التراجعات عن الجار والتراجعات العائدة للطرق والتخطيطات المصدّقة وضمن التراجع عن الأملاك العامة والرخص والتسويات المعطاة خلافاً للقوانين والأنظمة منذ 24/3/1994. وهو، بذلك، يضرب كل مفاهيم التخطيط المدني والأطر القانونية التي تنظم عملية البناء. صحيح أنه يستثني تسوية المخالفات الحاصلة ضمن ارتفاقات الطيران المدني والتعدّي على الأملاك العامة البحرية والنهرية وعلى التراجعات عن هذه الأملاك والمخالفات ضمن المحميات الطبيعية وفي مناطق حماية الآثارات. لكن التشويه الذي سينتج عنه سيطال البيئة العمرانية في مدننا وقرانا، ويؤدي الى استباحة الأراضي الزراعية والأحراج والمواقع الطبيعية، ويكرّس المخالفات في العقارات الخاصة المتاخمة للأملاك العامة البحرية والنهرية (مشروع «ايدن باي» مثلاً) أو المنتجعات المخالفة المقامة على طول الشواطئ اللبنانية. ومن جهة أخرى، يضرب المشروع عرض الحائط بمبادئ السلامة العامة والوقاية من الزلازل. إذ أن المباني المخالفة أقيمت من دون احترام الآليات التي تهدف إلى تأمين متانة البناء، في وقت تتزايد ظاهرة المباني المهدّدة بالانهيار في كل المناطق. وهذا يدل على استخفاف خطير بسلامة المواطنين قد تكون له نتائج كارثية إذا تعرّض لبنان لزلزال شبيه بزلزال سنة 1956.

طابق مرّ جديد؟
أما مشروع القانون المسمّى «الواجهة الخامسة» فيهدف الى تعديل قانون البناء رقم 646 (11/12/2004) وتعديل المرسوم التطبيقي رقم 15872 (12/12/2005) للسماح بإضافة طابق جديد على الأبنية القائمة والمستحدثة في جميع المناطق، من دون احتسابه في معدّلات الاستثمار وعدد الطوابق والارتفاع الأقصى الذي تحدّده أنظمة البناء.
واذا كان المشروع انطلق أساساً، كما يظهر في الأسباب الموجبة، من رغبة المشرّع في تنظيم استعمال ثكنات القرميد التي يقوم بعض المالكين بإلحاقها بالطابق الأخير عبر فتحة غير قانونية في السقف المشترك، أو رفع ثكنة القرميد لتأمين علو كاف لاستعمالها كمسكن إضافي بعد الحصول على رخصة الإسكان، الاّ أن صيغته النهائية - كما أقرّتها لجنة الأشغال العامة والنقل والطاقة والمياه - تخطّت هذه الاعتبارات، وشرّعت لإقامة طابق إضافي جديد على كل الأبنية الموجودة والمستحدثة في كافة المناطق المحدّد فيها عدد الطوابق وارتفاع البناء، على أن يكون سقف هذا الطابق المنحدر مغطى بشكل كامل بالقرميد، أو بمواد يجري تحديدها من قبل المجلس الأعلى للتنظيم المدني، وعلى أن يتضمن ما لا يقلّ عن 15% من مساحة هذا الطابق لوحات شمسية لتوليد الطاقة.
أما في المناطق التي لا يحدّد فيها نظام البناء عدد الطوابق وارتفاع الأبنية، فينص مشروع القانون على أنه يمكن زيادة ما يوازي 25% من مساحة العقار على عامل الاستثمار في الأبنية الموجودة والمستحدثة، على أن تقتصر هذه الزيادة على طابق واحد في العقارات المبنية والمفرزة، وعلى أن يكون الطابق الأخير مغطى بمواد يحدّدها المجلس الأعلى للتنظيم المدني، وأن يتضمن ما لا يقل عن 15% من مساحة هذا الطابق لوحات شمسية لتوليد الطاقة، مع لحظ حديقة بنسبة لا تقل عن 40% من مساحة السطح الأخير.
الأثر المباشر الأول للمشروع هو زيادة معدّلات الاستثمار في كافة الأراضي اللبنانية. وباستثناء بيروت وطرابلس وبعض المناطق المدينية، حيث تفوق معدّلات الاستثمار الحالية 100% من مساحة العقار، فان الزيادة في معدّلات الاستثمار الناتجة عن مشروع القانون تبلغ 25% على الأقل في باقي المناطق، وهي قد تصل الى 50% في مناطق ريفية. هذه الزيادة في معدّلات الاستثمار تعني زيادة في الكثافة السكانية، مما سينتج ضغطاً اضافياً على البنى التحتية والمواصلات، ويزيد المشاكل الناتجة عن استهلاك الكهرباء والمياه والصرف الصحي وشبكات الطرق والنقص في مواقف السيارات. والجدير بالذكر أن المجلس الأعلى للتنظيم المدني تلقى كتاباً من وزيرة الطاقة والمياه (رقم 43 ص1/تاريخ 12/2/2019) أحاله اليه وزير الأشغال العامة والنقل، تطلب فيه الوزيرة التشدد في عدم إعطاء رخص بناء واسكان للأبنية التي تشاد في المناطق الريفية خارج المناطق السكنية، لتفادي الضغط المتزايد على شبكات البنى التحتية ولا سيّما لجهة معالجة الصرف الصحي. كما أن الزيادة في معدلات الاستثمار الناتجة عن مشروع القانون ستؤدي الى مزيد من الاكتظاظ في مدننا وقرانا، والى مزيد من الاختناق في المناطق المبنية التي تعاني أصلاً من كثافة سكانية مرتفعة.
قانون تسوية المخالفات يضرب مفاهيم التخطيط المدني والقوانين التي تنظم عملية البناء


أما إذا كان مشروع القانون يهدف الى «تجميل» الواجهة الخامسة للأبنية والحدّ من التشويه الحاصل بسبب استعمال أسقف الأبنية عشوائياً، فكان بالإمكان تعديل قانون البناء الحالي لفرض شروط محدّدة لمعالجة السطح الأخير، من دون اللجوء الى إضافة طابق جديد او زيادة في معدّلات الاستثمار ستكون لها نتائج وخيمة على البنى التحتية وعلى البيئة العمرانية والطبيعية. واذا كان التنظيم المدني يحدّد عدد الطوابق والارتفاع الأقصى للأبنية في بعض المناطق، فإن ذلك بهدف الحفاظ على طابع القرى والارياف وعلى المناظر الطبيعية في الاحراج والأراضي المنحدرة في الجبال والوديان. لذلك، سيكون لمشروع القانون الذي يسمح بإضافة طابق جديد تأثير أكيد على البيئة العمرانية والطبيعية في هذه المواقع.
أما الأبنية الموجودة، فان السماح بإضافة طابق جديد عليها ستكون له تداعيات خطيرة بالنسبة لمواقف السيارات الإضافية التي يستحيل تأمينها. ناهيك عن أن المشروع يضرب عرض الحائط بأبسط متطلبات السلامة العامة. إذ أن الأبنية التي شيدت قبل سنة 2012 لم يأخذ تصميمها في الاعتبار ضرورة مقاومة الزلازل، ما يعني أن المشروع يزيد المخاطر على الممتلكات والارواح، إضافة الى ما يمكن أن ينتج عنه من مشاكل حقوقية وقانونية بين مالكي الحصص والانتفاعات.
ولا يمكننا إلاّ أن نستغرب اقتراح مشروع القانون هذا في وقت يشهد السوق العقاري تراجعاً ملحوظاً بوجود أكثر من 200 ألف شقة سكنية ليس هناك من يشتريها. فهل يعقل أن يقترح إضافة مساحات بناء جديدة في وقت السوق غير قادر على استيعاب المساحات الموجودة؟
أخيراً، دلّت التجارب السابقة أن تسوية مخالفات البناء لا تدخل الى الخزينة الا نسبة محدودة من الرسوم. وقد أظهرت الدراسة التقديرية التي أعدتها نقابة المهندسين بالتعاون مع التنظيم المدني أن إقرار المشروع لن يدخل للخزينة أكثر من 150 مليون دولار الى 250 مليوناً سنوياً كحدّ أقصى، في حال تجاهلنا الأزمة الحالية التي يمرّ بها قطاع البناء وارتكزنا على معدّل مساحات رخص البناء خلال السنوات السبع الأخيرة.
فهل نخاطر ونعتمد مثل هذين القانونين اللذين سيؤديان الى مزيد من التشويه لبيئتنا ولطابع مدننا وقرانا ويزيدان الضغط على البنى التحتية ويهددان السلامة العامة، مقابل مبالغ لا تمثل سوى نسبة ضئيلة من واردات الخزينة؟

* نقيب المهندسين