«كيف كنت ستمضي الدقائق الأخيرة من حياتك لو تبقّى لديك نصف ساعة فقط؟». طرح المعلّم هذا السؤال على طلابه المقبلين على التخرج، والذين سيسلك كلّ منهم طريقه الخاص في الحياة الجامعية، وفي جامعة الحياة. وبما أنّ السؤال غير تقليدي، جاءت إجابات الطلاب غير نمطية ومتباينة. جلس المعلّم في المقهى عشية نهارٍ شاق، وأخذ يقرأ إجابات طلابه المتفاوتة.كتب أحدهم: «أقبّل يديّ أمي وأحاول النوم فأنسى».
قال آخر: «أصّلّي، فإن الصلاة رضا وأمان».
على ورقة أخرى قرأ جواباً يقول: «أكمل حياتي وكأنّ شيئاً لن يكون...».
تواترت القراءات إلى أن لفته طالبٌ يقول: «لو تبقى من حياتي نصف ساعة لكنت أتمنى، وبصدق شديد، أن أمضيها في واحدة من حصصك التعليمية...». امتلأ المعلّم نشوة واعتزازاً، عدّل من جلسته وابتسم.
إلا أنه صُدمَ مما أوضحه الطالب في أسفل ورقته: «... لأن الدقيقة الواحدة في المدرسة تمرّ وكأنها سنة، وفي هذه الحالة أعيش ما يدنو إلى الأبد...»!
إنّ كثيرين ممن أوكلت إليهم مهمة النور، يبدعون في تأسيس الظلام على الدوام. ولعلّ عدداً كبيراً من طلابنا يتآكلون طموحاً وإبداعاً في الزنازين التربوية، ويعانون من سلطة النظام القمعي داخل الصفوف الدراسية. حتى بات يظن واحدهم أن الحرية في العلم، رجس من عمل الشيطان.
ماذا تقدّم مناهجنا الدراسية للأجيال اليوم غير تكريس مهارات ممجوجة ومتخلّفة مثل الاجترار والحفظ والتكرار؟ إن المناهج التي أثبتت بالنتائج الدامغة أنها تعدّ الأجيال من أجل الماضي، لا المستقبل، والتي يعوق الالتفاف عليها الاختبارات الرسمية التي باتت تختلف عن بعضها بالترويسة وتواريخ إجرائها فقط، هي خيانة كبرى بحق جيل كامل من الكنوز المضمرة.
من المعروف أن التعليم في أيامنا هذه حساس لدرجة أنه يعدّ جيلاً كاملاً لمستقبل غير معروف تماماً. مستقبل تتقاعد فيه الكثير من الوظائف لصالح الروبوتات الذكية ويتفوق فيه الابتكار على ما عداه من المهارات. إزاء هذه التحديات، يجدر بواضعي السياسات التربوية أن يكونوا مبدعين في استشراف الغد، عوضاً عن أن يمارسوا الهرولة على آلات الجري، بحيث يراوح الواقع مكانه في زمن يتسارع يوماً بعد يوم نحو المجهول. في المقابل، فإن التعليم من أجل الامتحان، الذي يقيس مستوى المعرفة لا مستوى الفهم، هو، بمعنى من المعاني، تكريس للجهل وتحنيط للحاضر وتنميط للمستقبل.
كيف للعلوم مثلاً أن تكون شقيّة هنا وشيّقة هناك؟ ومن يقنعني أنّ معلّم الموسيقى الذي سخر من أحد أجمل العقول في التاريخ، ألبرت أينشتاين، كان محقًا حين قال له: «أنت لا تجيد استعمال جدول الضرب فكيف تريد أن تلعب الموسيقى على الفيولون؟». بعد ذلك بعقدين ربما، أعاد تشكيل مفاهيم كثيرة وأتى بما لم تستطعه الأوائلُ، لدرجة أنه عندما تم إثبات واحدة من نبوءاته في مجال الضوء، وضعت الجرائد في صفحاتها الأولى صورة للأرض وهي تقول: «أينشتاين مرّ من هنا...».
إذا كانت لحظة اكتشاف الكهرباء قد شكلت انعطافاً في تاريخ العالم، فإن انعطافةً للبقاء بفعالية على هذا الكوكب تتوقف على اكتشاف الضوء الكامن في أعماق طلابنا. ولعمري، إن المعلّم الحقيقيّ، هو الذي كلّما علّم تعلّم، وكلّما اكتشف كشف.
كل استراتيجية تعليمية، هي مفتاح يحاول فتح النوافذ في عقول المتعلمين، ليس من أجل إدخال النور إلى ذواتهم فحسب، بل من أجل السماح لشموس مضمرة في صدور الأجيال، أن تلاقي طريقها إلى العالم الحسي الخارجي. وحيث أن المعرفة تبدأ بسؤال، مهمّتنا الأسمى، كتربويين، أن نتيح لطلابنا طرح الأسئلة، خصوصاً تلك المختلفة واللامنهجية، وحتى تلك التي نظنّ أنها لا تؤدّي، لأن العملية التعليمية التي تتّسم بحرية الأسئلة، هي بلا شك مكانٌ آمنٌ للإجابة...
بهذا نكون، كمعلمين، ذوي نبوءة ومستكشفين، إذ نفعل ما يفعله العلماء والشعراء والمبدعون الساكنون على تخوم العالم، نحاول أن نتلصص على الغيب لنردم الهوّة الفاصلة بين الشك والحقيقة بتراب المعرفة. علينا كمعلمين أن نحاول تغيير دورنا من محور للحلقة التعلمية إلى مراقبين لها، فّإن جلّ ما نقوم به هو أن نشدّ انتباه طلابنا بدهشة الأسئلة، ونراقبهم وهم يسلكون سبل البحث العلمي عبر طرقٍ واسراتيجيات متنوعة، طرق تصل ما يجهلونه بما نطمح لهم أن يعرفوه. وكما أنّه لا أحد يغرق في البحر الميّت، حبذا لو نكثر من ملح المعرفة والخيال والفضول العلمي، ونحن نعدّ لبناء طلابنا بحيث لا يغرقون ولا يعمهون.

* شاعر وأكاديمي