في المواسم الأخيرة، ابتكر أهالي بلدة اليمونة مساحات جديدة لزراعة الحشيشة. لم يعد «جنى» العمر محصوراً في الأراضي التي كانوا يملكونها أو «يضمنونها» للزراعة. مع الوقت، استحالت أسطح منازلهم «مساكب» حشيشة. حدث ذلك، يوم صارت الدولة تشنّ حملات التلف حرصاً على «شرعيتها». كانوا يعوّلون على تلك السطوح لتعوّض لهم، ولو بنسبة ضئيلة، ما كان يمكن أن يخسروه. هكذا، حموا زراعتهم التي جعلتهم «طفاراً» لوقت طويل. ليس ناس بلاد اليمونة وحدهم من امتهنوا هذا «الكار». ثمة كثر غيرهم من البقاع، كما لبنان الشمالي، لجأوا إلى زراعة الحشيشة التي تخطّت بزراعتها ما يزرعونه من القمح! الحشيشة، بالنسبة لزارعيها، هي الرزق «المبارك». القمح يأتي بعدها، فالمردود الذي يمكن أن يأتيهم منه لا يقاس بما تأتيهم به الحشيشة. ثمة ميزة أخرى للحشيشة: نبتة بلا متطلبات، ولذلك سمّوها «المبروكة». قاصد سهل منطقة البقاع وسهول لبنان الشمالي، يمكن أن يرى، واقعاً، كيف صار القمح في مرتبة أدنى... وكيف تصير الحشيشة، موسماً بعد آخر، النبتة التي لا بديل عنها. لم يغيّر المزارعون عاداتهم، حتى في عزّ حملات التلف... ولن يغيّروا. لكن يبدو أن «الدولة» تتجه اليوم لتغيير عادتها.منذ منتصف العام الماضي والدولة مشغولة، بأجهزتها كافة، في كيفية سن قوانين تسقط صفة «ممنوعة» عن زراعة الحشيشة. في تموز الماضي، أخذت «قضيّة» الحشيشة حيزاً واسعاً من النقاش، بعد صدور تقرير «ماكينزي» الذي اعتبر أن إضفاء الشرعية على زراعة القنب الهندي - لأغراض طبية - ستدرّ ما يقارب «مليار دولار إلى خزينة الدولة». هكذا، استحالت القضية المثيرة للجدل، مع تقرير شركة الإستشارات الأميركية، قضية محورية وبدأت «تتساقط» مشاريع القوانين لتشريع الحشيشة للإستعمالات الطبية... مدفوعة بالمليار المفترض.
لكن، هل تكفي تلك «الاستشارة»، وتالياً، الهدف المغري القائم على فكرة تنمية بعلبك - الهرمل، لتشريع الحشيشة؟ وهل أجريت دراسات علمية لمعرفة ما إذا كان النوع المزروع من القنب في سهول البقاع ولبنان الشمالي يحتوي على «المادة الفعالة» CBD (cannabidiol) لتطبيق التشريع للإنتاج الطبي؟
المشاريع المطروحة تحول المزارعين من ملاكين لأراضيهم إلى مجرّد موظفين ما يزيد فقرهم


ثمة شبه إجماع على «الحيرة» التي يتخبّط فيها أعضاء اللجنة النيابية الفرعية التي شكّلت لدرس اقتراح قانون تنظيم زراعة القنب الهندي حول نوع نبتة القنب، المفيدة طبياً: هل نعيد زراعة النوع الموجود في بلادنا أم أننا في حاجة لنوعٍ آخر؟ تنبع هذه الحيرة من دراسات «ميدانية» أجريت سابقاً، ومنها ما قام به المجلس الوطني للبحوث العلمية، حول نوع القنب الهندي المزروع في السهول اللبنانية والذي يفيد للإستهلاك البشري أكثر منه للإستعمال الطبي، خصوصاً أن «المادة الفعالة» الموجودة فيه دون المستوى المطلوب لانتاج «زيت الحشيشة».
وبعيداً عما قد تخرج به اللجنة التي لم تنه نقاشاتها، يمكن الحديث عن «سيناريوهين» اثنين لاقرار قانون تشريع القنب الهندي:
السيناريو الأول المتعلق بالتشريع على أساس النوع المزروع حالياً سواء للاستخدام الطبي او للاستهلاك الشخصي. في ما يتعلق بالاستخدام الطبي، تبرز إشكالية أن المساحات المزروعة، اليوم، تتجاوز أضعاف الحاجة الفعلية للإستخدامات الصيدلانية، ما يفرض على الدولة تحديد هذه المساحات إلى «حدودها الدنيا»، بحسب أحد الخبراء. وهذا دونه تحدٍ، فـ«الحدود الدنيا» من الأراضي لن ترضي المزارعين الذين لا مورد آخر لهم.
أما في ما يتعلق بالتشريع للاستهلاك الشخصي، فلا يمكن الإعتداد بنجاح بعض التجارب في عددٍ من البلدان المتقدمة، كنموذج لتطبيقها في لبنان. وبحسب مركز ترشيد السياسات (K2P) في كلية العلوم الصحية في الجامعة الأميركية، فإن أي نموذج مستورد «قد لا يؤدي إلى النتائج المرجوة، خصوصاً أن لكل بلد اعتباراته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والزراعية، أضف إلى ذلك أن الارتباط غير المتسق بين تشريع زراعة الحشيشة والاستهلاك يشكّل تحدّياً عند سن القانون».

المساحات المزروعة تتجاوز بأضعاف الحاجة الفعلية للإستخدامات الصيدلانية (أ ف ب )

جوني صيقلي، الذي أجرى تجارب زراعية لخمسة أنواعٍ مختلفة من الحشيشة عام 2008، يبدي حماسة لما فعلته دول متقدمة شرعت هذه النبتة للإستهلاك، إضافة إلى الاستخدامات الطبية، إلا أنه يخاف من «النموذج اللبناني»، خصوصاً أن تشريعاً كهذا يفترض نوعاً من «المأسسة»، أي تشكيل لجان عمل من الدولة والقطاع الخاص «وهو ما يثبت فشله دائماً هنا. ما في شي بيصير بلبنان متل دول تانية». ولكي يحدث في لبنان «شي»، فهذا يستوجب وضع آلية واضحة وإجراء دراسة جدوى اقتصادية واضحة على صعيد وطني. وهو ما يطرحه بشكلٍ دائم، رئيس المجلس الوطني للبحوث العلمية معين حمزة، إذ يربط أي تشريع قانوني بإجراء دراسة جدوى. دون ذلك، لا مستقبل للحشيشة بلبنان، إلا بوضع آليات دقيقة لتشريع استعمالاتها.
في السيناريو الآخر الذي من المفترض أن يشرّع على أساس نوعٍ «بديل»، وهو ما جرى طرحه في اللجنة الفرعية، فهذا أيضاً دونه تحديات. التحدي الأول يتعلّق بالكلفة المرتفعة للنوع الجديد مقارنة بـ«اللا كلفة»، نسبياً، للنوع المزروع حالياً. ويجري الحديث حالياً عن إمكانية استيراد نوعٍ من البذور الصالحة للإستخدام الطبي، بقيمة «5 يورو للبذرة الواحدة»، وهي كلفة عالية جداً.

نقاش الزراعات البديلة
لكن، الكلفة العالية، وإن كانت ستخلق أزمة كبيرة، ليست نهاية المطاف، فمجرّد الحديث عن البدائل يعيد فتح النقاش حول الزراعات البديلة التي لم تثبت نجاحاً، خصوصاً أنها أكثر كلفة من نوع الحشيشة المزروعة وتحتاج إلى اهتمام بالأرض «وقلبها» عقب كل موسم أو بضعة مواسم لإراحة الأرض، وهو ما لا يحدث مع الحشيشة. ويمكن الإستعانة هنا بالبدائل التي طرحت ولم تنجح، ومنها دوار الشمس التي لم تستقم سوى عام واحد وزراعة الشمندر السكري التي لم تربح معها سوى عائلة واحدة كانت قد عمدت إلى شراء الشمندر من الناس بأسعار زهيدة وتحويله إلى سكر من خلال معملها وبيعه إلى الدولة بسعرٍ يفوق ما كانت تدفعه الأخيرة على السكر المستورد!
ثالث العقبات هو تحويل المزارعين من ملاكين لأراضيهم إلى مجرّد موظفين، وهو النموذج الهجين الذي سيزيد فقر هؤلاء.
ماذا عن السعر؟ يمكن وضع هذا السؤال أيضاً في إطار التحديات، فاللحظة التي ستشرّع فيها نبتة القنب الهندي سيهبط سعرها إلى ما دون ما هو اليوم حتى في انخفاضه. ففي السنوات الأخيرة وبعد عمليات التلف وأزمة المعابر مع سوريا، انخفضت قيمة ما كان يعطيه دونم (المروي) إلى حدود 150 دولاراً بعدما كان يتراوح ما بين 800 و1000 دولار.
دراسات «البحوث العلمية» أظهرت أن الحشيشة اللبنانية تصلح للإستهلاك أكثر منها للإستعمال الطبي


ليس القانون مجرّد نزهة. ثمة مشاكل بالجملة تتعلق بمنطق التطبيق وكيفيته. ولا تعني الإستشارات والملايين التي تضعها كأرباح معياراً للتشريع كيفما اتفق. الحاجة هنا إلى دراسة مفصلة، سيكون من ضمنها تحديد عائد المزارع، خصوصاً أنه سينتج فقط المادة الاولية وهذه تحمل أدنى سعر في دورة الإنتاج، وتخمين القيمة المضافة عند تحويل السلعة الأولية إلى منتج مسوّق، أضف إلى ذلك الكلفة التي تستوجبها إقامة المصانع وفتح أسواق جديدة...».
ثمة أكثر، ففي دراسة «الإستجابة السريعة» التي قام بها مركز ترشيد السياسات، ثمة تأكيد أن «الحالة اللبنانية تفرض تقييماً مفصلاً للجوانب المختلفة المتعلقة باستخدام القّنب، مثل معدل استهلاك القنب وعدد الحالات الطبية ونوعها التي تتطلب علاج القنب الطبي ومعدل الإجرام المرتبط بالحشيش وحجم سوق القنب المحلي وإمكانية التصدير». كما ينبغي أن يشمل أي تنظيم لزراعة الحشيشة أربعة أبعاد على الأقل: «أنواع المنظمات المسموح لها بتقديم الدواء والأطر التنظيمية التي تعمل بموجبها تلك المنظمات وطبيعة المنتجات التي يمكن توزيعها والسعر». كل هذه الأدلة والتفاصيل العلمية قد توضع على المحك في ظّل غياب التطبيق الصحيح والمراقبة الدقيقة، ولأصحاب القرار وظيفة عند محاولة تشريع الحشيش تستدعي إشراكهم «في حوار علمي قائم على الأدلة» يفتح الأبواب للتطبيق السليم ويغلق شبابيك الإتجار غير الشرعي. أما، ما هو غير ذلك، فلا يعدو كونه «محاولة لنزع صفة اللاشرعية عن منطقة كبيرة تشكل 25% من لبنان».