نشرت الإعلامية رابعة الزيات، أمس، على تويتر الصورة الشهيرة التي تمثّل «يوم الحشر» في بيروت أمس الجمعة: على «جسر اللوزيّة»، وخلفه وأمامه، وتحته وحوله، آلاف السيارات المتجمدة في مكانها… مع تعليق ظريف: «بلاك فرايداي». أمس، كان «الجمعة الأسود» في بيروت بأكثر من معنى. المعنى الأول يشير إلى اختراع استهلاكي أميركي، انتقلت عدواه إلى لبنان أخيراً، ويقضي بكسر الأسعار بطريقة خرافية في هذا اليوم من الموسم. طبعاً، رابعة لعبت على المعنى، أخذَتِ الشعار بحرفيته، استعارته من حفلة التنزيلات العملاقة، لتطلقه على اليوم الكابوسي الذي انهال على البيروتيين.حتى الخير لم يعد يناسبنا نحن اللبنانيين. «يوم الجمعة الأسود» سببه خيرات السماء التي حوّلت كورنيش الرملة البيضاء إلى نهر هادر، بسبب مجرور يختصر كل الدولة اللبنانيّة وعصاباتها ومؤسساتها. «هُجّر» المجرور ــــ برغبة مستثمر لا يردّ له طلب ــــ من مكانه قرب المنتجع الفخم إلى مكان أبعد ليس فيه إلا شاطئ للفقراء… من دون تفكير بالعواقب التقنيّة، بالحد الأدنى، أي البنى التحتية وتصريف مياه الأمطار. أما حول وسط بيروت، حيث التقطت صورة «يوم الحشر»، فأقفلت كل الدروب المؤدية إلى هذا القلب الحيوي للمدينة. لماذا؟ لأن الجيش اللبناني كان يجري تمارينه استعداداً للاستعراض العتيد في يوم «عيد الاستقلال». استقلال مبارك يا جماعة! ومثل أسياد مجرور الرملة البيضاء، فإن أسياد القرار «الرؤيوي» ــــ أيّاً كانوا! ــــ غير معنيين بالعواقب، ولا بالناس ومصالحهم، ولا بحياة المدينة. لم ينتبه «الجيش» إلى الكابوس الذي سينتج من إجراءاته، عشيّة عطلة نهاية الأسبوع، تحت المطر الغزير… يحيا الاستعراض!
طبعاً، ليس الجيش كلّه. ليس «جيشنا المفدّى» كقيمة وطنية عليا، ذاك الذي نريده ونحلمه حصناً منيعاً بوجه العدو الوحيد الأوحد المهدد وجود لبنان وكيانه (عرفتم من؟). إنما المؤسسة التي بدت أمس مثل سائر المؤسسات في مملكة الطوائف: غير فعالة، وغير معنية بالشعب! في لبنان منتجع الخمس نجوم أهم من البيئة، وأهم من السياسات العمرانية والصحّية، وحقوق «الناس اللي تحت» وحياتهم. وفي لبنان أيضاً الاستعراض العسكري أهم من حياة الناس. في ذكرى استقلال فولكلوري، في ظل دولة متهاوية، ومؤسسات متصدّعة، وبنى تحتيّة متآكلة، ومستوى معيشي منهار، واقتصاد مهدّد، وغد مرصّع بالكوارث الآتية… في لبنان الطالع من أوبريت رحبانيّة، «الكرنفال» أهم من حياتنا. تتخيّلون قليلاً عبثيّة المشهد؟ يعدّون لاحتفال باستقلال افتراضي، في دولة كرتون، في بلد فارط، ليس فيه حكومة… بلد يضم «قرطة عالم مجموعين» بلا ماء ولا هواء ولا كهرباء ولا مدارس ولا كرامة ولا صحّة ولا طرقات سالكة ولا حقوق ولا مستقبل ولا مستشفيات ولا أمل… لكنّ إدارة هذه الشركة المساهمة المشرفة على الإفلاس، متمسّكة بالواجهة البرّاقة، فخورة بالأسطورة. مصرّة على الاحتفال. لا بد من الاحتفال… في بلد الأوبريت ليس ما هو أهمّ من الاستعراض.
نادراً ما نقع على بلد مثل لبنان، حكامه ومسؤولوه حريصون على تعذيب الناس، وتخريب حياتهم. يبدو هذا هدفاً استراتيجيّاً. حتى في أبشع الديكتاتوريّات التي عرفها التاريخ، تحرص الطغمة الحاكمة على الترويح عن العباد، والتفسيح عن الرعايا، بالتوازي مع سياسات القمع والاستغلال والبطش. إلا في لبنان، يريدون كل شيء، أخذوا كل شيء، حتى فكرة الوطن القوي ودولة القانون العادلة، والاستقلال الحقيقي، وتركوا لنا أن نختار بين الغرق في السيول والمجارير في غياب أي خشبة خلاص، أو الاختناق والانسحاق في الزحام من دون أي إمكانيّة للفرار. قيادة الجيش عادت فاعتذرت من المواطنين. سلوك حضاري! يا أخي الاعتذار مقبول… إنما بشرط! أن يصار إلى التخلّص من العقليات والآليات التي أدّت الى ارتكاب هذا الخطأ الذي ليس نتيجة مصادفة. وإلا سيتكرر مشهد احتقار الشعب، كل يوم في أماكن أخرى، وبأشكال مختلفة، مع مؤسسات غير الجيش. ليس الجيش وحده: إنّها فلسفة حكم، ونظام سياسي. إنّها سياسة طبقة حاكمة متواطئة علينا. دولتنا هي التي تسرقنا وتسحقنا وتذلّنا. أين يذهب اللبنانيون بكل هذا الإحباط، وكل هذا القرف؟ كيف يعودون كل يوم إلى بيوتهم، كيف يلتحقون بطوائفهم، ويستأنفون ثغاءهم؟ هل حقّاً بقي لنا من خلاص في «لبنان قطعة سما» إلا الطوفان؟ أو ربّما الزلزال. الزلزال أظرف. علماء الزلازل يقولون إن موعده قريب على كل حال. دعه يأتِ في عيد الاستقلال الـ 75، فنقفل الدائرة، وتكتمل «الفرجة»!