ليس قصراً. لكن «النظام» يوجب تسميته بـ«قصر العدل» في بعلبك. هو مبنى من أربع طبقات، استأجرته الدولة اللبنانية عام 1994، وقررت أن تسميه قصراً للعدل. لكن، وعلى مدى 24 عاماً، بقيت الطبقة الرابعة غير مكتملة التشييد، وبالتالي، لم يسلّمها المالك إلى الدولة، ولم يلتزم ببند الصيانة. «القصر» إذاً من ثلاث طبقات لا أربع. لكن الدولة تدفع إيجار أربع طبقات وموقف سيارات. والموقف له حصته من «القصة» أيضاً. فالمالك لم يسلّمه إلى العدلية بعد، رغم مرور نحو ربع قرن على استئجاره!«وينيي الدولة؟»، يحضر السؤال المعتاد هنا. وزير العدل سليم جريصاتي يؤكد أنه يتابع القضية. ويوم 30 آب الماضي، بعثت المديرة العامة لوزارة العدل، القاضية ميسم النويري، بكتاب إلى رئيس محكمة الاستئناف في بعلبك، القاضي حارس الياس، مرفقاً بقرار صادر عن ديوان المحاسبة، يشترط فيه (الديوان) لتجديد عقد الإيجار أن يسلّم المالك كامل المبنى (من ضمنه الطبقة الرابعة) إضافة إلى موقف السيارات، وأن يُجري كامل التصليحات اللازمة، على نفقته (قرار رقم 1594/ر.م تاريخ 21/6/2018).
ما الذي تغيّر؟ بدأت الورشة في «قصر عدل بعلبك». لكن التدقيق في الأمر يكشف أن ورشة «الإعمار والتأهيل» لم يباشرها المالك إنفاذاً لقرار ديوان المحاسبة. فقاضي التحقيق في بعلبك، حمزة شرف الدين، قرر أخذ الامور على عاتقه. لاقت خطوة شرف الدين الكثير من الاستحسان. ودبِّجت مقالات لمدحه. فـ«قصر العدل» مهمل. وسبق لجمعيات ومحامين أن تولّوا تأهيل مكتب قاضٍ فيه. وبحسب ما تناهى إلى وزارة العدل، تولى القاضي جمع تبرعات من «جمعيات وبلديات ومتمولين ومحامين». وهنا المشكلة. فتبرّع جمعيات وبلديات له أصول. ينبغي أن يقبل مجلس الوزراء الهبة. ويجزم وزير العدل بأنه لم يحل أي مشروع لقبول هبة على الامانة العامة لمجلس الوزراء، وان العرض الوحيد لقبول هبة تلقاه من جمعية «شيلد» التي عرضت المساهمة بمبلغ 15 مليون ليرة، فاشترط جريصاتي «سلوك الطرق القانونية» (بحسب الوثيقة التي كشفها جريصاتي لـ«الأخبار») ما يعني استحالة استخدام الهبة من دون موافقة مجلس الوزراء. الطامة الكبرى، بحسب محامين، تكمن في قبول «مساعدات» او «تبرعات» من متمولين ومحامين. فالمحامي يمثّل أحد المتنازعين امام القضاء (إما المدعي، وإما المدعى عليه). وبتبرّعه لأحد القضاة (ولو بهدف تأهيل قصر العدل)، فإنه يُدخل أي قرار قضائي لمصلحته في دائرة الشك. وكذلك الامر بالنسبة إلى «المتمولين» الذين يعاني نظام العدالة من «سطوتهم»، من دون ان يتبرّع احدهم بمبلغ لقاض. هذه العملية استثارت نقابة المحامين، وخاصة ممثلها في بعلبك المحامي دريد ياغي، الذي حرّك القضية، وأوصلها إلى النقابة. وفي هذا الإطار، يؤكد عضو مجلس نقابة محامي بيروت، المحامي جورج اسطفان، أن النقابة ترفض تبرّع أي محام بأموال لأي مرفق عدلي، من دون ان تمر هذه التبرعات او الهبات بالطرق القانونية، وانها ستحاسب أي محام يثبت قيامه بهكذا خطوة مخالفة للقانون والأصول. تبقى البلديات. بلدية بعلبك، بشخص رئيسها العميد حسين اللقيس، أكّدت انها لن تساهم في بناء «قصر» العدل. لماذا؟ ببساطة، لان المبنى ليس ملكاً للدولة. يقول اللقيس: «نحن مستعدون للمساهمة في تأثيث المبنى، لكن تشييد الطبقة الرابعة والتأهيل سيصبان في مصلحة المالك. فعدا عن كونه ملزماً قانوناً بتسليم المبنى كاملاً لوزارة العدل، وفضلاً عن كونه تأخر بذلك 24 عاماً، فإن تأهيل الطبقة الرابعة وجعلها قابلة للاستخدام من قبل القضاة سيعفي المالك من موجباته من جهة، ناهيك بكونه قادراً على فسخ العقد الذي يُجدَّد سنة فسنة، وبالتالي، يكون قد استفاد من أي مال يُدفع في المبنى مرتين». وبحسب اللقيس، لا بلدية بعلبك، ولا اتحاد بلدياتها، قررا المساهمة في هذا المشروع.
القاضي يجمع تبرعات لترميم المبنى من محامين ومتمولين!


من أين تأتي الاموال إذا؟ لا احد يعلم. وزير العدل تحرّك مجدداً، وأرسل كتابين إلى رئيس محكمة الاستئناف في بعلبك، القاضي حارس الياس، يومي الخميس والجمعة الماضيين، يذكّره فيهما بكتابين سابقين له (3/7/2018 و30/8/2018)، طالباً توضيح كل المعلومات المتداولة بشأن ورشة تأهيل «قصر عدل» بعلبك، والتي يمكن تلخيصها بالآتي:
أولا، توضيح آلية تأهيل المبنى (مصدر الاموال، القائم بالورشة، دور القاضي شرف الدين في ما يجري)
ثانياً، توضيح سبب عدم مباشرة صاحب المبنى بالقيام بواجباته، علماً بأن بدل الإيجار الذي يتقاضاه من الدولة ارتفع حتى فاق الـ71 ألف دولار سنوياً، وأنه سبق قرارَ ديوان المحاسبة قرارٌ عام 1999 من إدارة الأبحاث والتوجيه في وزارة العدل تشترط فيه أيضاً، لتجديد عقد الإيجار، مبادرة المالك بتأهيل الطبقة الرابعة.
خلاصة ما يجري في «قصر» عدل بعلبك أن «الدولة» تحرّكت. لكنها حتى الآن لم تتمكّن من إلزام المالك بما يجب عليه. حتى القاضي حارس الياس، لم يٌجب على مراسلات وزير العدل (على ذمة الأخير في كتابه الرقم 4092/3، تاريخ 26/10/2018). وعوضاً عن ذلك، يتدخّل قاضٍ ليحل محل الدولة، وتنفيذ الأشغال بصورة غير قانونية. وللتغطية على هذه الاعمال، يجري تسريب معلومات مفادها أن المالك «تبرّع» بـ10 آلاف دولار للمساهمة في ترميم المبنى وتأهيل الطبقة الرابعة فيه. علماً بأن دراسة اولية لواقع «القصر» اظهرت انه بحاجة إلى أكثر من 60 ألف دولار لإتمام ما كان يجب إنجازه قبل 24 عاماً، ما يعني أن على الدولة ان تحجز هذا المبلغ من قيمة الإيجار السنوي، وتسدد الباقي كبدل إيجار. الطامة الكبرى أن وزير العدل تحرّك، ومجلس القضاء الاعلى يعرف تفاصيل ما يجري، لكن أشهراً تمر، ومخالفة القانون مستمرة، من دون أن يتمكّن احد من تنفيذ القانون في «قصر العدل».



القاضي «الرحوم»
تحلّلت الدولة. لم يبق منها سوى هيكل هش، يحتاج إلى أي ضربة صغيرة ليسقط. في «العدلية»، يظهر تحلل الدولة أكثر من أي مكان آخر، لا لأعطاب بنيوية في نظام العدالة وحسب، بل لأن القضاء هو أساس الهيكل. لا يختلف اثنان على أن استقلال القضاء هو أسطورة. تدخلات الحكام، من سياسيين وأصحاب أموال، جعلت هذه الاستقلالية أثراً بعد عين. والقضاء ليس جهازاً لإنفاذ القانون وحسب، بل هو الحاكم بالعدل. وينبغي أن يكون «الأمن الوطني» من اولوياته، فيرسم، بالتعاون مع السلطة التنفيذية، سياساته، ويلجأ إلى التشدد حيث يجب، و«التساهل» حيث يجب أيضاً. ولا يختلف اثنان أن منطقة بعلبك ــــ الهرمل تعاني من انفلات أمني كبير. وينبغي، والحال هذه، أن يلعب القضاء دوراً محورياً لتثبيت الامن. صحيح ان الشدّة لا تنفع دوماً، لكن تبعات التراخي قد تكون اخطر بما لا يقاس. حالة قاضي التحقيق في بعلبك، حمزة شرف الدين، تستدعي الوقوف عندها. لا يجوز، بطبيعة الحال، تحميله مسؤولية كل ازمات القضاء في المنطقة، لكن اداءه يبدو لافتاً للغاية. القاضي الآتي من سلك الامن (كان ضابطاً في الامن العام)، والذي يمارس التشدد مع رجال الشرطة في العدلية إلى حد أنه يفرض عليهم تأدية التحية العسكرية له، «واسع الرحمة». احصائية بسيطة لقراراته تكشف انه يوافق على طلبات إخلاء السبيل في أكثر من 90 في المئة من القضايا المعروضة عليه، ولو كان المدعى عليهم ملاحَقين بجنايات كالاتجار بالمخدرات وترويجها. وغالبية قراراته تخضع لاستئناف النيابة العامة، ما يؤدي إلى فسخها. وعندما يُسأل عن أدائه، يجيب بأنه «قاضٍ رحوم». رحوم إلى حد الموافقة على عشرات طلبات إخلاء سبيل مدعى عليه بالسرقة بعد توقيفه بالجرم المشهود!