يجسد احتلال البحر التعبير الاكثر وضوحاً عن نتائج احتلال الدولة نفسها وتجييرها لمصالح شخصية، اقتصادية ام سياسية. فالسماح للمزيد من المشاريع الاستثمارية باستغلال الشواطىء لغاياتها الربحية، لم يحرم الناس من حقوقها عليها فقط، بل سمح ايضا بالتمادي في النزوع نحو الاستئثار بالمزيد من الثروة والموارد، وفي مقدّمها الملك العام، حيث بات يجري التعامل معه كمال سائب، لا كمخزون لثروة وطنية، يجب ان يتشارك فيها الجميع بما يؤمّن منفعتهم المشتركة. تنتشر المنتجعات والمنشآت والشاليهات على امتداد نحو 220 كيلومتراً من الشواطىء اللبنانية، ولم يبق من هذه المساحة سوى 40 كيلومتراً قابلة للانتفاع العام. وبحسب التقديرات الحالية، يوجد اكثر من 1200 تعد على هذه الشواطىء، بمعدّل 5.5 تعديات، على الاقل، على كل كيلومتر. وتقدّر قيمة الاملاك العامّة المستولى عليها بعشرات مليارات الدولارات، وهي تدرّ ارباحا طائلة على محتليها، يسددها اصحاب الحق كخوّات مفروضة عليهم للانتفاع بملكهم، وترتب خسائر جمّة قد لا تكون قبلة للتعويض.
في آب 1945، حذّر ميشال شيحا، أحد أبرز منظّري النظام السياسي اللبناني، من ان «بلدنا سيضيق بنا». عبّر عن مخاوفه مما ستؤول اليه اوضاعنا، فقال: «نحن لا نملك سوى اكثر بقليل من 10 آلاف كلم مربع فقط. يجب ان ننظم انفسنا كي لا نضيّع اي من الثروات الطبيعية: بقاعنا وساحلنا وشمالنا وجنوبنا».
كتب شيحا هذه الكلمات عندما كان عدد سكان لبنان يقل عن مليون نسمة. الآن، بات عدد السكان يفوق 6 ملايين نسمة، وبات لبنان واحدا من البلدان ذات الكثافة السكانية الاعلى في العالم. فماذا فعلت الحكومة على امتداد ثلاثة ارباع القرن؟ في الواقع، لم تفعل شيئا سوى تجاهل هذا التحذير، وعمدت الى «تنظيم» الفوضى بدل مقاومتها وجعلتها طريقة للعيش والتربّح. وسوّغت التفريط بثرواتنا الطبيعية، غير القابلة للتجدد، بحجّة تشجيع الاستثمار ودعم النمو الاقتصادي. فماذا كانت الحصيلة؟ اصبحت الشواطىء كلّها مخصخصة، جرى تدمير المواقع الطبيعية والتاريخية المختلفة، وتم استنزاف موارد المياه الجوفية، وحُوّلت الارض، التي نعيش عليها، الى مجرد عقارات مخصصة للمضاربات على الاسعار، تشوهت المدينة وطُرد سكانها الاقل دخلا، وغزا الباطون السهول الزراعية، وازيلت المساحات الخضراء، وجرى تسخير نظم التنظيم المديني لخدمة مصالح المستثمرين على حساب حقوق كل السكان... هل يوجد تعريف للبؤس غير هذا؟
لقد ضاق البلد بسكانه، وصار طموح معظمهم الهجرة. المقيمون في هذا البلد باتوا يتكدسون على شريط ساحلي ضيق، لا سيما بين جونية والجية، بالاضافة الى طرابلس وصيدا وصور، وتتكدس معهم الابنية والمراكز التجارية والمنتجعات والسيارات... فيما تزداد المؤشرات السكانية والاجتماعية سوءاً، على صعيد البيئة والخدمات العامة والبنية التحتية، كما على صعيد فرص العمل وتوزيع الثروة والدخل وحق السكن والصحة.
لقد تم القضاء على كل حيز عام او مساحة مشتركة، لصالح اقامة «منغلقات»، او أماكن مقفلة للنخبة، «الاقلية السعيدة» التي تُثرى من تعاظم بؤسنا. ولكن ماذا بعد؟ اي مجتمع تجري هندسته؟ كيف يمكن الحديث عن «دولة»، اي دولة، فيما الحكومة تردد كل الوقت انها عاجزة عن ازالة الاحتلالات على الملك العام، وفي الوقت نفسه ترخص للمزيد من الاحتلالات؟
لقد ساهم ميشال شيحا بتأسيس هذه «الدولة»، على صورتها البائسة، ولكنه، على ما يبدو، كان اكثر حرصا من جميع «الشيحيين» الذين يحكموننا الآن ويدمرون كل أمل لنا بان ننظّم أنفسنا يوما ونبني بلدا لنا، صالحا للعيش.