قديماً، عندما كانت تنشأ إحدى القرى، كان أهلها يبنون سوراً حولها، وبعد أن تتوسّع يبنون سوراً آخر... هكذا يستمر توسع القرية وتتعدّد أسوارها مع الوقت. وما يُعتقد أنه السور الأول ــــ أي الأقدم ــــ لبيروت اكتشف مؤخراً في موقع التل الاثري، هو من آخر مواقع وسط بيروت التي نجت من عملية إعمار دمّرت العديد من الآثار وشوّهت معالمها الأساسية والطبيعية.إلا أن الفرحة بهذا الاكتشاف لم تدم، بحسب رئيس جمعية «نحن» محمد أيوب الذي كشف عن وجود أساسات خرسانية غير مرخّصة يجري تثبيتها في مكان الاكتشاف، قرب مبنى جريدة «النهار»، تمهيداً للبدء في بناء متحف للآثار المكتشفة، وهو ما عدّه بمثابة «كارثة أثرية وثقافية».

بحسب أيوب، «يضمّ الموقع لوحات فسيفساء وبقايا تدلّ على أنه كان مكاناً سكنياً. وهذا اكتشاف قد يغيّر ما يعرفه العلماء عن مكان أسوار المدينة السكنية، ويبشر باكتشافات ستؤدي الى ثورة في فهم تاريخ بيروت والمخطط التوجيهي للمدينة الفينيقية، ما يفرض إعادة النظر في أي مشروع منوي إقامته عليه». ولفت الى أن الحفريات تشير إلى أن الموقع «يحتوي على 5000 سنة من الآثار، منذ العصر البرونزي، ويؤرخ لكل الحضارات التي تعاقبت على بيروت: الكنعانية والإغريقية والهيللينية والرومانية، إضافة إلى الأمويين والعباسيين والصليبيين والمماليك وصولاً إلى العثمانيين».
كل هذا يجعل الموقع متحفاً قائم بذاته، لا مجال لاحتوائه داخل متحف أساساً. لكنه لا يبدو كافياً لدفع أصحاب المشروع إلى تغيير خططهم. ويعيدنا هذا بالذاكرة إلى ما قام به عالم الآثار الهولندي هانز كيرفر، عندما عمل لمصلحة شركة «سوليدير» التي لم تكن لتهتم (ولن تهتم اليوم) بآثار يمكن أن يؤدي التصريح عن اكتشافها إلى توقف أعمال البناء التي تديرها. فقد كان كيرفر يعمد إلى كتابة تقارير تفيد بعدم وجود آثار في المواقع التي تنوي الشركة إقامة مشاريعها عليها، وذلك في تفريط واضح بآثار بيروت عن طريق إنكار وجودها. أما اليوم فهناك من ينوي قتلها بالاسمنت والحديد بحجة الحفاظ عليها بدل حمايتها والحؤول دون العبث بها وفتحها أمام الجمهور كما تفعل كل الدول. وإذا كان الدافع وراء إنشاء المتحف تعزيز السياحة، فإن آثاراً من هذا النوع ليست بحاجة إلى هذه اللمسة الخشنة عليها.
الموقع المكتشف قد يغيّر فهم العلماء للمخطط التوجيهي للمدينة الفينيقية


أيوب دعا، في بيان أمس، وزارة الثقافة ومديرية الآثار القيّمة على هذا الموقع الى الكشف فوراً عليه وتوضيح سبب وجود ركائز الدعم الاسمنتية فيه، والتصريح للرأي العام عن تقدّم عملية التنقيب وأهمية الاكتشافات الاثرية، وتقديم تفسيرات واضحة عن كيفية إنشاء مشروع متحف بيروت التاريخي على هذه الآثار من دون إلحاق الضرر بها. وطالب رئيسي الجمهورية والحكومة بـ«التدخل الفوري» لحماية تاريخ لبنان وبيروت، مشدداً على أنه «من غير المسموح التساهل مع هذا الملف تحت أي ذريعة أو عنوان». وأكّد «اننا سنبدأ بالتحرك لحماية تاريخ بيروت... وهذا البيان ليس الا البداية».