رغم انشغال الأطراف السياسية جميعها في الانتخابات النيابية، إلا أن المشاريع ــــ الصفقات لا تتوقف. بين هذه التي توافقت عليها معظم التيارات السياسية الكبرى المسيطرة، صفقة كبيرة لانشاء محارق للنفايات بكلفة خيالية (تقارب مليار ونصف مليار دولار)، يمكن أن تغرق لبنان ليس في مزيد من الديون فحسب، بل وفي تلوث بيئي تاريخي واستراتيجي على مدى السنوات الـ 25 المقبلة، هي عمر العقود التي ستوقع لتشغيل المحارق. الحكومة التي يرفض رئيس الجمهورية اعتبارها «حكومة العهد الاولى»، كاعتراف ضمني بفشلها، تنهي عمرها بمشاريع كبرى ومكلفة (بكل المعاني) وفي منتهى الخطورة. حتى لم نعد نعرف ما إذا كان البلد مفلساً فعلاً، ام يصنف بين البلدان الغنية التي لا يهمها ان تعتمد اكثر الخيارات كلفة في معالجة نفاياتها المنزلية الصلبة بالحرق!في المشاريع التي اقترحتها الحكومة على مؤتمر «باريس 4» (سيدر) أربعة لادارة النفايات بكلفة مليار و400 مليون دولار. منها إنشاء 3 محارق في بيروت وطرابلس والزهراني بقدرة 1200 طن يومياً، وبكلفة 375 مليون دولار أميركي لكل منها، والرابع لتمويل المعامل التقليدية (فرز وتسبيخ) في المناطق الريفية في عكار والبقاع بكلفة 175 مليون دولار، إضافة الى 100 مليون دولار لمعالجة 962 مكباً عشوائياً مع استصلاح المطامر.
البنك الدولي نفسه وفّر علينا، هذه المرة، نقد سياسات الحكومة في ادارة ملف النفايات. ففي تعليقه على الملف الذي قدمته الحكومة لمؤتمر باريس، وصف أسعار هذه المشاريع بأنها «مقبولة»، لا سيما كلفة محرقة لإنتاج الطاقة في بيروت وإعادة تأهيل المكبات والفرز والتسبيخ والمطامر في المناطق الريفية… ليعود ويستدرك ان الافضل لبلد كلبنان، ليست له تجارب في ادارة محارق (معقدة ومكلفة) من هذا النوع، أن يبدأ بمحرقة واحدة وليس بثلاث او أربع محارق دفعة واحدة، مع الاخذ في الاعتبار ايضا دخله الوطني الذي لا يسمح باعتماد مثل هذه الخيارات المكلفة. واذ أشار الى ملخص سياسة ادارة النفايات التي وضعتها وزارة البيئة وتضمنت تقييم القدرات المالية والادارية للبلديات لادارة هذا الملف، توقع أن تختار البلديات الحلول المركزية. وهو ما يؤكد كل المخاوف والاتهامات التي وجهت الى وزارة البيئة بأنها ــــ في التعاميم التي ارسلتها الى البلديات لاستطلاع رأيها وامكاناتها لادارة النفايات او الدخول في الحلول المركزية (المحارق) من دون أن تعرض عليها ما الذي يجب فعله ــــ قد تقصّدت تفشيل هذه البلديات واظهارها عاجزة لالزامها في ما بعد بالدخول في خططها الحارقة. مع العلم أن برنامج الحكومة لطلب التمويل المشار اليه اعلاه، يغطي أكثر من 90% من النفايات المنتجة في لبنان.
صحيح أن البنك الدولي، مع الكثير من الخبراء، يعتبرون ان الحلول المركزية منطقية أكثر من الحلول اللامركزية، لأن للبنان تاريخاً في الكلفة العالية لادارة النفايات الصلبة، ولأن هناك صعوبة في ايجاد أراض للمعالجة… الا أن كل ذلك لا يعتبر سبباً كافياً لاعتبار تقنية الحرق وإنتاج الطاقة الحل الانسب، كونه من أغلى الخيارات قياسا الى بلدان وضعها الاقتصادي مشابه للبنان وتعتمد على المطامر أكثر من المحارق في نهاية سلسلة الخيارات المتاحة (وليس في بدايتها). ورغم ان «تحديات إيجاد الأراضي» موجود في مدينة بيروت، الا أن ذلك لا يعود ذا أهمية اذا كانت الحلول مركزية ووطنية.
يعتبر البنك الدولي أن برنامج الحكومة «طموح» عندما يتوقع أن يبدأ العمل بالمحارق خلال أربع سنوات، رغم تحديات اختيار الأرض وقبول الناس بهكذا خيار وايجاد التمويل المناسب، وكلها تحتاج الى وقت اكبر. فبحسب التجارب العالمية، تأخذ هذه العملية بين 5 و6 سنوات في بلدان ليست لديها تحديات ومخاطر ومشاكل مماثلة لما هو موجود عندنا. كما ينتقد الحكومة لأن ليس لديها، كما هو مرجّح، خطة بديلة اذا فشلت خطتها. ولكن، يبدو أن البنك الدولي لا يعرف أن الوضع اصعب مما يتصور، وان الخطة الطارئة السيئة التي تنفذ الآن، لأكثر من نصف نفايات لبنان، تنتهي مفاعيلها نهاية هذا العام، وليس بعد اربع سنوات!
يكرر البنك الدولي ملاحظات طالما تناولناها، وهي أن العالم يذهب الآن الى الاقتصاد الدائري، فيما يذهب لبنان في السنوات الـ25 المقبلة الى الحرق، وهي تقنية غير محببة في هرم معالجة النفايات. كما يرى أن الاستدامة المالية لتشغيل وتمويل هذا الخيار مشكوك فيها رغم اقتراح زيادة التعرفة على الكهرباء. مع العلم أن الغموض لا يزال سيد الموقف حول مسألة التمويل، وما اذا كانت على طن النفايات ام على شراء الكهرباء… وكيف ستحصل هذه العملية!
كما يبدي ملاحظات على دفاتر الشروط وتأهيل الشركات التي لم تأت من ضمن دراسة للسوق على فترة 25 سنة. واذ يرى أن كلفة إعادة تأهيل المكبات «منطقية»، الا انه يعتقد بأنها ستكون على عاتق الدولة، مشددا على ضرورة أن لا تبدأ الا حين تسير الحكومة في خطة مستدامة لمعالجة النفايات. ويبدو انه لم يعلم أن الحكومة كانت قد قررت بتسرع، لأسباب انتخابية، تمويل معالجة مكبات جبل لبنان قبل أن تتأكد من سير اي خطة مستدامة!
وفر علينا البنك الدولي، هذه المرة، نقد خيار الحكومة ومشاريعها في ادارة ملف النفايات، وكم تمنينا لو قدم المشورة الصالحة نفسها حول سياسة إنشاء السدود المكشوفة المكلفة وغير الضرورية أيضا!