أُنشئ التفتيش المركزي في عهد الرئيس فؤاد شهاب ليؤدي دور العين الساهرة على حُسن أداء الإدارة العامة للوظائف المطلوبة منها، وتشعبت فروعه لتطال جميع الأنشطة والمرافق العامة، باستثناء ما استبعدت من رقابة التفتيش بنصٍ صريح، ولا يقتصر أثر هذه الرقابة على ضبط الأداء، وإنما له دور فاعل في تصويب الإنفاق العام بصورة مباشرة من خلال التفتيش المالي وإدارة المناقصات أو بصورة غير مباشرة من خلال رقابة بقية وحدات التفتيش.
عند إنشائه، كان التفتيش المركزي يتألف من ثلاث وحدات متوازية، التفتيش المركزي – إدارة المناقصات – إدارة الأبحاث والتوجيه التي ألحقت في ما بعد بمجلس الخدمة المدنية من منطلق أنها تعنى بتحديد حاجات الإدارات العامة من الموظفين، وبقيت إدارة المناقصات إدارة موازية لإدارة التفتيش المركزي ضمن مؤسسة التفتيش المركزي المرتبطة إدارياً، لا وظيفياً، برئاسة مجلس الوزراء.
وهذا الارتباط الإداري برئاسة مجلس الوزراء، لا يعني الخضوع والتبعية ولا تلقّي الأوامر والتعليمات، وإنما هو ارتباط أوجبته ضرورات الحفاظ على وحدة الدولة وبيان طرق التواصل بين هذه الهيئات والجهاز المركزي، بحيث لا يصحّ إيجاد إدارة لامركزية أو لاحصرية أو مستقلة استقلالاً تاماً عن الإدارة المركزية، بحيث نلاحظ أن كل البلديات والمؤسسات العامة والأجهزة الرقابية مرتبطة إدارياً بإحدى الوزارات أو الإدارات العامة المركزية، وحتى القضاء، باستثناء المجلس الدستوري، فإنه مرتبط بوزارة العدل (القضاء الإداري والعدلي) أو بوزير الدفاع (المحكمة العسكرية) أو برئاسة مجلس الوزراء (القضاء الشرعي والمذهبي). فهل ارتباط القضاء الشرعي والمذهبي برئاسة الحكومة هو ارتباط تبعية وأوامر، أم ارتباط إداري محدد نطاقه في القانون؟

لا يجوز منح صلاحية مخاطبة التفتيش بصفة مشرفٍ أو موجّه الى جهة خاضعة لرقابته

من هذا المنطلق، فإن أي وحدة إدارية لا يمكن أن تكون مستقلة في هيكليتها بشكل تام، بحيث تنفصل عن الهيكل الإداري العام، لهذا كان ارتباط التفتيش المركزي إدارياً برئيس مجلس الوزراء، ولا يكون مرجع نقضٍ لقراراتها أو آمراً لها بالتصرف بنحوٍ معيّن، لأن المنطق العلمي والعملي، كما المعايير العالمية ترتبط جودة عمل مؤسسات الرقابة بدرجة استقلاليتها عن السلطة التنفيذية.
ولهذا يطرح التساؤل حول فعالية استمرار ارتباط التفتيش المركزي برئاسة مجلس الوزراء، إن الإجابة عن هذا السؤال نجدها في منطق الرئيس فؤاد شهاب الذي أنشأ هذا الجهاز، فلقد رفض يومها رئيس الجمهورية ربط هذا الجهاز وكذلك بقية أجهزة الرقابة برئيس الجمهورية لأنه يومها كانت تناط به السلطة التنفيذية، وكان يدرك أن ارتباط جهاز الرقابة بالسلطة التي تمارس السلطة التنفيذية سيؤدي إلى إضعافه أو محاولة هذه السلطة التأثير على قراراته وهو مكلّف بمراقبتها، لهذا تقرر أن يرتبط التفتيش المركزي وكل أجهزة الرقابة الأخرى برئيس مجلس الوزراء الذي كان بمثابة وزير أول يسهر على حُسن سير العمل في جميع الوزارات، ويسهر على انتظام عمل الإدارات العامة والمؤسسات العامة والبلديات.
لكن بعد التعديلات الدستورية الجوهرية التي حصلت في عام 1990، بموجب القانون الدستوري رقم 18 تاريخ 21/9/1990، تحولت السلطة التنفيذية إلى مجلس الوزراء وأصبح رئيس الجمهورية، رئيس ورمز وحدة الوطن المناط به دستوراً السهر على احترام الدستور وحسن تطبيق القوانين. وكان من الطبيعي والمنطقي أن تلحق مؤسسة التفتيش المركزي إدارياً برئيس الجمهورية، وهذا الارتباط سيجنبها التفسير الخاطئ لمعنى الارتباط الإداري الذي يقتصر بحسب قانون التفتيش على الموازنة والموارد المالية والبشرية والإشراف والتوجيه، وسيكون بمثابة حافز نحو منع تدهور العلاقة بينهما إلى درجة التبعية الوظيفية الكاملة التي تجعل من رئاسة مجلس الوزراء رئيساً تسلسلياً تعطي الأوامر والتعليمات الملزمة وتراقب أداء إدارة التفتيش وتتابع الملفات التي تنظر بها.
وإلى حين إجراء التعديلات المقترحة، فإنه يجب المحافظة على مؤسسة التفتيش المركزي كمؤسسة مستقلة وظيفياً ومرتبطة إدارياً برئيس مجلس الوزراء، ويجب المحافظة على استقلاليتها، وهذا الارتباط الإداري هو بشخص رئيس مجلس الوزراء الذي لا يملك أن يفوّض هذه الصلاحية إلى وزير أو إلى الأمين العام لمجلس الوزراء أو غيرهما، لأن من غير الجائز منح جهة خاضعة لرقابة التفتيش صلاحية مخاطبة التفتيش بصفة مشرفٍ أو موجّه. وعليه، فإن مخاطبة التفتيش المركزي إنما تتمّ بموجب مراسلات يوقّعها رئيس مجلس الوزراء وليس أي شخصٍ آخر. وإذا كان قد تكرّس عرف خاطئ حول المرجع الذي يخاطب، فإن من المناسب تصويب هذا الأداء وحصر مراسلة التفتيش المركزي برئيس مجلس الوزراء مباشرة.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية