دعت مجموعة «جايي التغيير» ــ المؤلفة من اتحاد الشباب الديمقراطي ومجموعات طلابية ــ الناس الى إحضار أكلهم لافتراش خليج «السان جورج» يوم السبت عند الساعة الثالثة. إلا أن أعضاء المجموعة كانوا منهمكين منذ ليل الخميس في التخطيط لعملية أخرى: إزالة سياج الدالية. بقي المخطط محصوراً بحلقة ضيقة، خوفاً من التسريبات وتصدّي القوى الأمنية للأمر.
اقتضت الخطة أن تحشد المجوعة الناس في «الزيتونة باي» لتدعوهم من هناك الى المساهمة في هدم السياج، خصوصاً أنّ نقاشات كثيرة جرت خلال الأيام الماضية، بعد إقرار استهداف «الزيتونة باي»، عن عدم جدوى هذا النوع من التحركات «السلمية» وعن ضرورة التركيز على رمزية الدالية وما يجري عليها. لم يكن النقاش بين المجموعات قبل يوم السبت يحمل أي اعتراض معلن على خطوة «الدالية»، لكن «الزيتونة باي» استدعت استنفاراً لدى بعض أفراد المجموعات الاخرى خوفاً من أن يكون التحرّك يستهدف طرفاً معيناً، ما فتح نقاشاً جدياً داخل الحراك أعاد الى الواجهة رغبة البعض في حصر الحراك بمسألة النفايات فقط من دون التوسّع بالمطالب.

في «الزيتونة باي»

عند الساعة الثالثة بعد الظهر بدأ الناس يتوافدون الى خليج «السان جورج» تلبيةً لدعوة «الغداء». حملوا أكلهم في أكياس وافترشوا الأرض الخشبية لـ»المارينا». لائحة الطعام نهار السبت في «الزيتونة باي» تضمنت فلافل، جبنة، لوبية بزيت، مجدرة، فتة بلبن وعصير وراس نيفا. تفاخر الناس بطعامهم مفترضين أنّ هذه «الأكلات ليست موجودة في المطاعم الفاخرة المرصوفة وراءهم». حملت إحدى المشاركات فنجان القهوة فرحةً بأنها تشرب «القهوة في الزيتونة باي بألف ليرة فقط». تحوّل الممر الخشبي للحظات إلى «مناقصة» علنية، يقول أحدهم ضاحكاً «قنينة مياه عندن (مشيراً الى أحد المطاعم) بـ6000 ليرة، هذه القنينة التي أحملها بـ1000 ليرة». مجمل الحديث بين المجموعات التي افترشت الأرض تركّز على الفارق بين الأسعار في هذه المنطقة ومناطقهم: «كباية العصير هون سعرها 20 دولار»، «إذا بدك تاكل سندويش ما بتطلع بأقل من 100 دولار». الأرقام التي «رُميت»، وهي طبعاً مبالغ بها، تكشف مدى نجاح السلطة، عبر القواعد التي فرضتها على هذا المكان، في خلق انطباع لدى الناس أنهم من غير المرغوب فيهم هنا.
بين الناس، كان هناك من يتجوّل معلناً أن «الزيتونة باي» تختصر كل ما تجب مقاومته، فهي قامت على سلب الذاكرة الجماعية بتغيير اسم خليج «السان جورج»، وكذلك الاستيلاء على أملاك عامّة نتجت من ردم البحر، وصرف النفوذ لإصدار مراسيم استثنائية لإقامة منشآت تخالف التنظيم المدني وقوانين البناء. يكفي المحتجون لإعلان غضبهم أن «الزيتونة باي» يملكها مناصفة شركة «سوليدير» وشركة أخرى صاحبها الوزير محمد الصفدي، الذي كان يشغل منصب وزير الاشغال العامة والنقل، أي وزير الوصاية على الاملاك العامة البحرية، عندما جرى الترخيص لهذا المشروع.
آخر يشير الى مرفأ اليخوت: «هذا جزء من الأملاك العامة المنهوبة، التي لزّمتها الدولة اللبنانية لشركة سوليدير بالتراضي ومنحتها استثمار المارينا لمدّة 50 عاماً بـ2500 ليرة في السنة فقط عن كل متر مربع».

تعلن بعض المجموعات بوضوح أنّ مطلبها الأول هو النفايات لكنه ليس المطلب الوحيد

يشرح ثالث أن «هذا واحد من أكثر من 1141 تعدياً على الاملاك العامة البحرية، والتي تقدر قيمتها بمليارات الدولارات، بينما لا يتجاوز متوسط الدخل الشهري لنحو عشرة آلاف صياد في لبنان 200 دولار». تستدرج هذه المعلومات ردّ فعل واحداً لدى جميع الموجودين على الأرض بالهتاف: «هذا الملك العام لنا».
وبما أنّ «اليافطة» الموضوعة على مدخل المارينا من قبل «سوليدير» تمنع على «المارين» في ملكهم العام الأكل، السباحة، الموسيقى، الغناء واللعب، قرر المشاركون كسر جميع هذه القواعد، فارتفعت الموسيقى وبدأت حلقة الدبكة، فيما قرر آخرون أنه لا بد من السباحة بين يخوت الأغنياء حتى ولو كانت المياه ملوّثة.
قوى الأمن كانت تقف على الرصيف المرتفع تراقب الناس من دون أن تتدخل، وإلى جانبها رجال أمن «سوليدير» عاجزين هذه المرّة عن منع الناس من الفرح. كان هؤلاء ينتظرون بترقّب أي محاولة شغب لقمعها، لكنّ أملهم خاب؛ فبعد أقل من ساعتين، حمل الناس أكياس الأكل ونظّفوا مكانهم وغادروا فجأة وبسرعة. كانت المعلومة تنتشر وسط الجموع: «الى الدالية». لم يعلم المشاركون ماذا سيحصل في الدالية، لم يكن لديهم أدنى فكرة أنّ هناك نيّة لإزالة السياج الحديدي. عبارة «الى الدالية» كانت كفيلة وحدها بجذب الناس، فلبّوا الدعوة من دون تردّد.

الى الدالية

عندما وصلت المعلومة الى الناس بمغادرة «الزيتونة باي» كان قد وصل الى سياج الدالية نحو 40 شخصاً من مجموعة «جايي التغيير» مجهزين بالمعدات اللازمة من كفوف وقطّاعات لتنفيذ مخطط إزالة السياج. من أمام نقطة شرطة بلدية بيروت التي وُضعت لحماية «الملكية الخاصة»، قطع الناشطون أوّل شريط في السياج. في هذا الوقت كان المزيد من الناس قد وصلوا الى الدالية، ووصلت معهم القوى الأمنية التي انتشرت بكثافة على طول الشارع البحري. بقي عناصر شرطة بلدية بيروت، كما رجال أمن «سوليدير»، عاجزين عن فعل أي شيء، فالسياج ينهار أمام أعين القوى الأمنية. أحدهم همس الى أحد الناشطين قائلاً «برافو عليكن، شيلوه»، وابتعد. استغرق الأمر نصف ساعة فقط حتّى داس الناشطون بغضب السياج من نقطة الموفنبيك وصولاً إلى النقطة المواجهة لصخرة الروشة. لم يكتف البعض بإزالة السياج فقط، فسارع الى اقتلاع عدد من العواميد الحديدية المغروزة في الأرض لإعاقة البلدية عن إعادة تركيب السياج مرة أخرى على حساب دافعي الضرائب كما كانت قد فعلت سابقاً عندما عمدت مجموعة الى إحداث تخريب في السياج ليلاً فانكبّ عناصر شرطة البلدية على ترميمه، علماً بأن شركة خاصة وضعته. عزّز هذا الإنجاز أهدافاً أكبر، يقول سليمان فقيه، أحد المشاركين، «في المشوار الثاني سنزيل العواميد وفي المشوار الثالث سنوقف المشروع نهائياً».
تعتبر الدالية حيّزاً عامّاً استولت عليه شركات عقارية، تملّكها في التسعينيات الرئيس الراحل رفيق الحريري، وقرر ورثته إقامة مشروع سياحي ــ تجاري هناك على حساب حقوق اللبنانيين وأملاكهم العامة وذاكرتهم ومساحاتهم المشتركة. يتضمن المشروع الضخم مركزاً تجارياً وفندقاً ومطاعم ومقاهي ومسابح وملاعب مقفلة. وهو سيستحوذ على موقع طبيعي نادر، يشمل صخرة الروشة الشهيرة، ومغاور المنطقة المعروفة. وقد نجحت هذه الشركات العقارية في إيقاف مشروع للدولة على أملاكها العامّة لتأهيل ميناء الصيادين، كذلك نجحت في طرد الصيادين وعدد من الاسر المقيمة هناك، وأقامت سياجاً وأسلاكاً شائكة على الكورنيش البحري لمنع الناس من الوصول الى البحر. حصل ذلك بموافقة بلدية بيروت التي تذرعت بمبدأ قدسية الملكية الخاصة على ما عداها، علماً بأن القانون يمنع التعدي على الملك العام ويمنع إقامة أيّ عوائق أمام البحر وعلى الكورنيش.
«فكّوا الشريط الحدودي» صرخ رجل خمسيني، ومجدداً من أمام نقطة شرطة بلدية بيروت، بدأ الناس يدخلون الى ملكهم العام. ساروا بصف طويل بين الأعشاب المرتفعة التي نبتت على مرّ السنوات، الجميع متحمّس للوصول الى البحر. ما إن تجاوزوا الأعشاب حتى بانت صخور الدالية بين «بلوكات» الباطون العملاقة. يشير أحدهم الى البلوكات «هون بدن يعمروا». بعض المشاركين في تحطيم السياج نزلوا للمرة الأولى الى الدالية. لم يزوروها من قبل، لكنّ حماستهم انطلقت من أمر واحد: «هذا البحر لي. هذا حقي في التمتّع بالبحر». الفرح الذي سيطر على الناس عندما وصلوا الى مياه الدالية كان غريباً. أشخاص تعنيهم الدالية وأمضوا فيها طفولتهم وآخرون لم يزوروها من قبل، جميعهم شعروا بأنهم حققوا إنجازاً باسترداد مكان يخصّهم بشكل أو بآخر. «هذا البحر لي»، قالها أحد الشباب وقفز في الماء، ولحقه عدد كبير من الناس الذين نزلوا بثيابهم الى بحرهم.

تنويع الساحات… خدمة للحراك

في خضمّ هذه الأحداث، كانت سجالات معارضة للخطوة تُخاض بين أفراد المجموعات: لماذا «تشتّتون» الأهداف؟ فلنركّز على أزمة النفايات!
يقول منظّمو الهجوم على سياج الدالية إن أياً من المجموعات لا تنكر أنّ تراكم النفايات في الشوارع شكّل المحفّز الأساسي للاحتجاجات الجارية، وبالتالي من الطبيعي أن يكون مطلب النفايات هو المطلب الأول، فالنفايات موجودة في الشارع ولا بد من رفعها. لكن من العبث اعتبار أن الاحتجاجات التي تحصل اليوم لم يسبقها شيء، إذ هناك تراكم للاحتجاجات حصل في السنوات الأخيرة من إسقاط النظام الطائفي الى هيئة التنسيق النقابية ومطلبها في سلسلة الرتب والرواتب وتعديل النظام الضريبي، مروراً باحتجاجات جامعة شهدنا بوادرها سابقاً في مجال الكهرباء والمياه والعنف الأسري والزواج المدني وأيضاً ضد السطو على الأملاك العامة البحرية. لذلك عندما نزل الناس الى الشارع نزلوا كي يستكملوا معاركهم التي فتحوها في مراحل مختلفة، وهي مطالب متّفق عليها من قبل الجميع. فالسطو على الأملاك البحرية، مثلاً، هو أمر لا يجاهر أيّ من المجموعات بتأييده. هذا يعني أن هذا الحراك يمكنه حمل هذه المطالب، لأن هناك توافقاً عليها، وبالتالي ما حدث نهار السبت وما سبقه من تحطيم لـ»الباركميتر» هو فتح معركة كانت موجودة أصلاً، وليست معركة جديدة.
وعليه، يرى المنظمون أن معركة استرداد الدالية تقارب في حيثياتها أزمة النفايات، ولا يمكن اعتبارها غير آنية. فالسياج وُضع منذ أكثر من عام، وتم تهجير الصيادين وهناك مشروع يُعدّ، أي إنّ الأزمة تحصل الآن، تماماً مثل أزمة النفايات. من هنا، يُطرح سؤال مشروع: لماذا سيكون هناك مانع اليوم من أن تشمل الاحتجاجات ساحات مختلفة؟ فمسألة الدالية لا علاقة لها بالانقسام السياسي الحاصل. هي سطو على الأملاك العامة بإجماع الكل، كذلك لا علاقة لها بتوسيع بوصلة الحراك الى حدّ «إسقاط النظام» و»الفوضى». فالمجموعات التي تطرح فتح ملفات أخرى مثل الكهرباء والأملاك العامة، هي نفسها تشارك بزخم في جميع التحركات المتعلقة بالنفايات، وبالتالي هي تعلن بوضوح أنّ مطلبها الأول هو النفايات لكنه ليس المطلب الوحيد، ما يعني أنّ تعدد الساحات المطلبية لا يؤثر سلباً في المطلب الأول، بل على العكس، يحشد هذا الأمر المزيد من الناس. فكيف إذا كانت قرارات مجلس الوزراء الاخيرة لمعالجة أزمة النفايات تتضمن ردم البحر في برج حمود واستحداث عقارات إضافية للسطو عليها؟ إذا هي ساحة مترابطة.