طوت تينا تيرنر إحدى الصفحات الأخيرة من حقبة لن تعود، ورحلت الأربعاء الماضي عن عمر ناهز 83 عاماً بعد معاناة طويلة مع المرض، تاركةً إرثاً هائلاً لا يشمل أرشيفها الموسيقي الضخم فحسب، بل كذلك الشعلة التي سلّمتها إلى فنّانين آخرين معروفين شكّلت مصدر إلهام لهم، يراوحون بين الجيلَين القديم مثل بوني تايلور، وتريسي تشابمان، وميك جاغر، وجانيت جاكسون وجوان جيت، والجديد مثل جنيفر لوبيز، وريانا، وبيونسيه، وسيارا، وماري جي بلايج، وليدي غاغا وفيرجي... كلّ هؤلاء تأثّروا بـ«ملكة الروك آند رول» فاستوحوا من طرقها المفعمة بالطاقة في تقديم عروضهم، كما تأثّر بها جمهورها الذي رآها أيقونة نسويةً ورمزاً للتغلّب على تحدّيات الحياة التي خاضت معها تجارب مريرة، جزء منها كان يتعلّق بلون بشرتها والجزء الآخر بحياتها الشخصية وطفولتها.
خلال حفلة في سان دوني في فرنسا عام 2000 (برتران غي ـ أ ف ب)

اسمها الأصلي آنا ماي بولوك، وُلدت عام 1939 في ولاية تينيسي الأميركية لوالدَين سويسريَّين من أصول أفريقية، ما لبثا أن هجراها وشقيقتَيها كلّ إلى مكان، فانتقلت للمكوث مع جدّتها وهي في عمر 11 سنة فقط. وكانت تيرنر اعترفت في سنوات لاحقة بتشاجر والدَيها كثيراً، وبعدم حبّهما لها وعدم رغبتهما بها. كانت تيرنر في سنوات طفولتها تغنّي مع جوقة الكنيسة، ثمّ عملت في سنوات مراهقتها كعاملة منزلية، وفي هذه الفترة تلقّت خبر موت شقيقتها في حادث سير مع اثنَين من أقربائهما. وبعد ذلك توفيت جدّتها وهي في عمر 16 سنة، فانتقلت للعيش مع والدتها في سانت لويس في ولاية ميزوري.
أكملت تعليمها الثانوي ثمّ عملت كمساعدة ممرّضة على أمل دخولها مهنة التمريض. كانت في تلك الفترة تزور مع شقيقتها النوادي الليلية في سانت لويس وإيست سانت لويس. هناك شاهدت آيك تيرنر مع فرقته للمرة الأولى، فافتُتنت به وبموسيقاه. روَت لاحقاً أنّها طلبت منه الغناء معه على المسرح رغم قلّة النساء اللواتي كنّ يغنّين إلى جانبه، فوعدها بالاتّصال بها لكنّه لم يفعل. ذات ليلة من عام 1957، أمسكت بالميكروفون خلال الاستراحة وغنّت إحدى أغنيات بي. بي. كينغ. وعندها أعجب آيك بصوتها وطلب منها المزيد، فاستمرّت في الغناء حتى نهاية الأمسية وانضمّت إلى فرقة آيك الذي أخذ على عاتقه تعليمها طرق التحكم بالصوت والأداء المسرحي. اعتمدت اسم «ليتل آن» وسجّلت أولى أغنياتها «بوكس توب» مع كارلسون أوليفر عام 1958.
بعدما أُعجب رئيس أحد الاستديوهات التي سجّلت فيها بصوتها الإكزوتيكي، شبّهها بـ«شينا ملكة الغاب»، وقرّر أن يشهرها تحت اسم «تينا». بعد إنجابها لولدها الأوّل وانتقالها للمكوث مع آيك تيرنر وولدَيه من امرأة أخرى، طلب منها اعتماد اسم «تينا تيرنر» وهكذا كان. عام 1960، أصدرا معاً أغنيتهما الأولى A Fool in Love التي سرعان ما حقّقت نجاحاً كبيراً. في العام التالي، حققّا نجاحاً آخر مع It’s Gonna Work Out Fine التي حقّقت لهما أوّل ترشيح لجائزة «غرامي». ورغم النجاح والشهرة، إلّا أنّ آيك أساء معاملة تينا، فعرّضها للعنف الجسدي والإذلال وتعاطي المخدّرات. كانت هذه إحدى أكثر المراحل ظلاماً في حياة تينا، ولم يكن سهلاً عليها الخروج منها نظراً إلى شعورها بالمسؤولية تجاه موسيقاهما. تزوّجت من آيك عام 1962 في تيخوانا في المكسيك، لكنّ المعاملة السيّئة لم تتوقّف. حاولت هجره مرّات عدّة، ووصل بها الأمر إلى محاولة انتحار عام 1968. استمرّ الوضع على ما هو عليه حتى عام 1976 عندما تمكّنت من الفرار طالبةً المساعدة من صديقتها الممثّلة آن مارغريت، وتطلّقت أخيراً من آيك.
بعد انفصالها عن آيك، كافحت لتأسيس نفسها كفنّانة منفردة. قدّمت عروضاً هامشية حتى عودتها القويّة في الثمانينيات. فترة حقّقت لها الجزء الأكبر من شهرتها ونصّبتها أيقونةً، وأصدرت فيها تحفاً لا نزال نسمعها جيلاً بعد جيل. هكذا، بدعم من صديقها الفنّان الراحل ديفيد بوي، شرعت في تسجيل ألبومها الأهمّ Private Dancer عام 1982. شكّل الألبوم نقطة تحوّل في مسيرة تيرنر، فحقّقت الأغنية الرئيسية فيه What’s Love Got to Do With It نجاحاً فوريّاً وأمضت ثلاثة أسابيع في أعلى المخطّطات، بالإضافة إلى نجاح We Don’t Need Another Hero والأغنية التي تحمل اسم الألبوم. بذلك، قدّمت تينا صوتها الهادر وأسلوبها الناري إلى جيل جديد، وحصلت على ثلاث جوائز «غرامي». طوال العقد التالي، واصلت إصدار الأغاني الفردية، ومثّلت في بعض الأفلام، وكتبت مذكّراتها «أنا، تينا» التي حقّقت مبيعات هائلة، بالشراكة مع كاتب «رولينغ ستون» آنذاك كورت لودر.
عام 1989 أصدرت ألبوم Foreign Affair الذي تضمّن أغنيات شهيرة مثل The Best وLook Me in the Heart وI Don’t Wanna Lose You والأغنية التي تحمل اسم الألبوم. شكّل الألبوم مثالاً هامّاً لموسيقى الديسكو الناعمة، إذ تميّزت إيقاعاته بالمزج بين الديسكو والبوب الخفيف، ما أنتج موسيقى يمكن سماعها في أيّ فترة من النهار، لا في الملهى فحسب. استمرّ نجاح تينا طوال التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحالي، فحصلت على 12 جائزة «غرامي» بما فيها جائزة «إنجاز العمر»، واحتلّت المركز الثالث والستين في قائمة «رولينغ ستون» لأفضل الفنّانين على الإطلاق والمركز السابع عشر في قائمة أفضل المغنّين. لدى تيرنر نجومها الخاصة في ممرّ هوليوود للمشاهير وفي ممشى سانت لويس للمشاهير، وأُدخلت في الصالة الفخرية للروك آند رول مرّتَين، مع إيك تيرنر وفرديّاً.
تخلّت تيرنر عن جنسيّتها الأميركية في العقد الماضي بعد حصولها على الجنسيّة السويسرية، وانتقلت للعيش هناك مع زوجها إروين باخ الذي يصغرها بسنوات. عانت من المرض لفترة طويلة من آخر سنوات حياتها، وصلت حدّ تفكيرها في الموت الرحيم بسبب مشكلة كلوية قبل تمكّنها من الخضوع لعملية زرع بعد تبرّع عضويّ من زوجها. شُخّصت بالسرطان عام 2016، ما أدّى إلى وفاتها الأسبوع الماضي.
تأثير تينا تيرنر على صناعة الموسيقى لا يقاس. صوتها القويّ وحضورها اللاهب على المسرح وأسلوبها الفريد ألهم عدداً لا يحصى من الفنّانين. كانت قصّتها في التغلّب على المحن وتحقيق النجاح بمثابة منارة للناجيات من العنف المنزلي ولاقت صدى لدى أجيال من النساء، ما ساعد على زيادة الوعي حيال هذه القضية. اتّبعت تيرنر التعاليم البوذية التي وجدت فيها عزاء وراحة.
بعد خبر وفاتها، قال روجر ديفيز الذي أدار أعمالها لفترة طويلة: «منذ التقيتها للمرّة الأولى عام 1980 وهي تؤمن بنفسها عندما لم يؤمن بها سوى قلّة في ذلك الوقت». وأضاف: «كانت قوّة طبيعية فريدة بفضل نشاطها وطاقتها المذهلتَين وموهبتها المميّزة». هكذا إذاً، سلّمت تيرنر شعلتها وانطفأت. لكنّنا سنستذكرها دائماً، ونقول لها كما في كلمات أغنيتها الشهيرة «أنت ببساطة الأفضل».