واضح أنّ سينما المخرجة الفلسطينية مها الحاج مبنيّة على ركائز شخصية وكون ثابت، وفي الوقت نفسه هي دائماً في عملية تطور وتحول مستمر. لم تكشف الحاج كل ما لديها إلى الآن بخلاف معظم المخرجين الفلسطينيين الواضحين من البداية والغاضبين الذين يبوحون بكل شيء في فيلمهم الأول. سينما الحاج، مختلفة بعض الشيء: في فيلمها الطويل الأول «أمور شخصية» (2016) ابتعدت عن ظل الصراع العربي الإسرائيلي، لتسلّط الضوء على قصص شخصية، والتحديات الداخلية للمجتمع الفلسطيني. في فيلمها الطويل الثاني «حمّى البحر المتوسط» (2022)، نجد أفكاراً سردية تحرك الشريط نحو مناطق وموضوعات غير مستكشفة حتى الآن. إنها السينما الاجتماعية السياسية الأكثر هدوءاً ويأساً. في ركودها، تتضح أزمات الفرد الوجودية. سطح هادئ مخادع مضحك وكاذب، تدحضه توترات متصاعدة من الغضب والكآبة. في فيلمها الأخير، تقترب من الكوميديا السوداء والميلودراما الجافة، التي لا تذرف الدموع ولا تعلو بسببه الضحكات. لكنها تحبس المشاعر بدون تكبيل الفيلم وإعطائه الحرية لسرد توتر درامي مغلف بفكاهة، من خلال قصص أشخاص عاديين يواجهون خيارات أخلاقية واجتماعية مؤلمة، من دون إغفال القضايا والظروف السياسية والتاريخية لبلادها. الدقة التي تجلب بها العاطفة إلى الشاشة، تطلب منّا الصبر لنرى تطور القصة والتغيير التدريجي للشخصيات. لا نشاهد الصراعات والهموم والاحتياجات الوجودية بشكل مباشر، لكنها تنعكس على العيون وفي الأحاديث المتبادلة لوهلة أو ثانية.حمّى البحر المتوسط هو مرض يُصيب عادة الأشخاص من أصول متوسطية. تستخدم الحاج هذا الاسم لعنوان فيلمها كنوع من الاستعارة التي تفرض نفسها على الواقع المعاش، معتمدة الأسلوب البارد لفيلمها السابق. تجبرك على الشعور بعدم الارتياح رغم الطمأنينة الظاهرة والفكاهة اللاذعة، لتكون أمام عالم تجهل ملامحه، وقصة تبدأ من دون أي أساس. لكنك لا تستغرق وقتاً كثيراً كي تعي ما يحصل أمامك، وتفكر فيه، عندها لا يسعك سوى التمهل، كما الشخصيات لمراقبة ما يجري بكل تمعن وإصغاء. تركز الحاج قصتها على وليد (عامر حليحل)، شخص يصعب التماهي معه، ولديه برودة وعدوانية كره حقيقي للبشر. لا نعلم السبب الرئيس للاكتئاب الذي يعاني منه وليد، المرات القليلة التي نراه فيها يخرج من حزنه هو للتعبير عن الغضب فقط. يعيش وليد مع زوجته علا (عنات حديد) في حيفا، مقابل البحر، نفس التعابير الفارغة يستعملها عندما يتحدث مع زوجته أو يأخذ أطفاله إلى المدرسة أو عندما يكون عند الطبيبة النفسانية أو عند محاولته كتابة رواية. السبب الذي يجعلنا نتحمل هذه الشخصية هو احتمال التغيير. وصول جاره الجديد جلال (أشرف فرح) والسكن في جواره يجبره على الخروج من شرنقته.
ولو كان القلب ينبض، فإنك كإنسان في فلسطين لست موجوداً

وليد وجلال يقضيان معظم وقتهما في البيت، يغسلان ويطبخان ويكنسان ويمسحان بسبب عدم وجود وظيفة أساسية ثابتة. يحاول وليد كتابة رواية عن الجريمة، ولكن مع وصول جلال، تصبح هذه المهمة أكثر تعقيداً ولكن قد تساعده على التغلب على جموده والاستلهام من حياة جلال اليومية التي يمكن أن تساعده في ملء صفحاته الفارغة. جلال رجل صاخب ومباشر متناقض وماكر، يستمتع بملذات الحياة وأيضاً لديه بعض الأعمال غير الشرعية ويحتاج إلى مال لتسوية ديون. تتطور علاقة الاثنين لتتحول إلى صداقة غير متوقعة، ويشرع الاثنين في رحلة غريبة مليئة بالمواجهات المظلمة.
«يا له من طقس يوم جميل، لا أستطيع أن أقرر بين أن أشرب الشاي، أو أن اشنق نفسي»، بهذه العبارة الغامضة والمثيرة للسخرية لتشيخوف، تنهي مها الحاج فيلمها. والفيلم ليس بعيداً عن البناء التشيخوفي النموذجي الذي تتصدر فيه العبثية الفكاهية للحالة الإنسانية. ولكنه في الوقت نفسه، يبتعد عنه ليحتضن الاكتئاب القومي، حيث يتجسد هذا الاكتئاب في حالتَي الإنكار والغضب. فوليد غاضب من كل شيء، ولا يستخدم غضبه بطريقة إبداعية، بل يركز على الخراب والضياع والموت. وجلال في حالة الحزن اللامبالي، وفي ما يتعلق بالاحتلال، لا يسعه إلا أن يقول «فلسطين، نقعوها وشربو ميتها». ويقول لوليد بسخرية: «مش عارف عن إيش تكتب، أكتب عن الاحتلال، عن الصراع». تكشف مها الحاج تعقيد النَفَس الذكوري الفلسطيني، وتكشفه بمهارة على خلفية الاحتلال غير المرئي، الذي لا نراه أبداً في الفيلم ولكنه الحاضر دائماً. تعرف المخرجة كيف تجعل الصراع العربي الإسرائيلي منتشراً، يحوم حول الجميع، في فيلم من النوع الذي تحدده وتشكله الظروف الاجتماعية والسياسية.


القصة نفسها مسلية ومكتوبة ومنفذة ببراعة، فهي مليئة بالصدمات الإنسانية والسياسية. سينما الحاج هي سينما فلسطينية جديدة، لم نرها من قبل. وعلى الرغم من أنه يمكن لشخصيات الحاج أن تكون مشابهة لشخصيات إيليا سليمان، إلا أن الحاج تبتعد عن كل شيء مباشر وفج وتغلف القضايا التي تقلقها بشيء من الفكاهة والسخرية والعبثية. «حمى البحر المتوسط» قصة آسرة وغير متوقعة عن الصداقة والاكتئاب في مواجهة تيار من الإحباط الاجتماعي والسياسي. ومع صداقة وليد وجلال، أصبحت أزماتهما الوجودية أكثر وضوحاً. فيلم الحاج هو نوع من القصص الشعبية الساحرة التي تجذب منذ الدقائق الأولى، مع شخصيات هشّة في محيط عائلي ساحلي. هنا يستحيل كل شيء سجناً. سجن لا يمكن الفرار منه بسبب العزلة وعدم القدرة على التعبير. قدمت الحاج فيلمها بطريقة سلسة، بمشاهد باردة وحوارات أبرد مليئة بالأفكار التي لا يمكن إلا أن تجعلنا نفكر. استفزّتنا الحاج بلطافة سردها، يمشي الفيلم بمعظمه من دون توتر مؤرق أو تباين حاسم أو تناقضات حادة، وبلحظة نجد أنفسنا في وضع من الوحدة المتأصلة في التفكير الانتحاري. إنها عزلة عدم قدرة على التعبير عن نفسك للغرباء والعائلة على حد سواء من دون رد فعل عنيف شديد. هي حالة رهاب الأماكن المغلقة الموجودة في كل مكان في فلسطين. في المجمل، مشكلات شخصيات الفيلم هي نتيجة الهروب من البوح بأي حقيقة بين الأفراد، وهذا كما تراه الحاج هيكلاً اجتماعياً قائماً ولا يزال.
خارج جدران المنزل الأربعة مشكلات، ثم في داخلها مشكلات من طابع مختلف، لكنها لا بد من أن تكون مترابطة. حياة الأسرتين خاضعة لحالة المجتمع والتقلبات السياسية. «حمى البحر المتوسط» ليس الفيلم الفلسطيني الأول حول وحدة الإنسان المتواجد داخل جماعة وحول الحدود الشخصية والمجتمعية. ولكنه الأكثر واقعية، الأكثر صدقاً وجرأةً ووعياً. الاضطرابات الداخلية للفلسطينيين مهمة، كما محاربة الاحتلال، والتوازن مطلوب في الحالتين. شخصيات الفيلم ليست مثالاً للتوازن العاطفي، ناهيك بتطلعاتها المختلفة. والحاج عبقرية في خلق شخصيات مضطربة، تفعلها في كل مرة. في الواقع، الفيلم بمثابة تدمير ذاتي، يزيح الستار عن الشك، ويؤكد بأننا منذ فترة طويلة على عتبة الهاوية ولا نريد أن نعترف بذلك. وبأن من يدعي التحضّر، متمثلاً بمجتمع أكثر عدالة ومساواة بين الفلسطينيين والإسرائيليين يمكن وصفه بالموهوم. في فيلم الحاج كل شيء مقدم بطريقة مدروسة ليعطي انطباعاً، بأنه من الصعب لأي كان الخروج حياً. ولو كان القلب ينبض، فإنك كإنسان في فلسطين لست موجوداً، وما تبقّى منك هو الجسد فقط الذي ينتظر الموت الأخير.