ميشيل خليفي (1950)، الذي يزور لبنان حالياً، بدعوة من «نادي لكل الناس» (راجع الكادر)، يمكن اعتباره بشكلٍ أو بآخر أحد آباء السينما الفلسطينية الحديثة وأحد أعلى أصواتها «الواقعية». صاحب «زنديق» (2009) يعترف بفلسطينيّته عالياً، مستعيراً من محمود درويش جملته الشهيرة بأنّ «الفلسطيني أصبح المسيح الذي يحمل صليبه على ظهره ويتجوّل في العالم».
«عرس الجليل» كان تعبيراً عن حبي للناس (ميشيل خليفي)

المخرج المولود لعائلة فقيرة في مدينة الناصرة المحتلة، اضطرّته الظروف وهو لا يزال فتى، للدراسة والعمل ـ في الوقت عينه ــ في «كاراج» لتصليح السيارات، مساعداً في إعالة عائلته. في عام 1970، غادر إلى أوروبا، وتحديداً بروكسل، ليدرس المسرح في معهد المسرح والسينما. فتنته السينما وهو على مقاعد الدراسة، هو الذي قال في مقابلة سابقة معنا: «وأنا أدرس المسرح، كان لديّ أصدقاء يدرسون السينما، وكثيراً ما كنت أساعدهم، لا حدود بين السينما والمسرح والأدب. كنت ذاك الشاب الذي يحاول تلمّس واكتشاف كلّ شيء. في مرحلة الطفولة في الناصرة، كنت أشاهد أفلام الكاوبوي، لم تكن دور السينما منتشرة، وعوضاً عنها كانت عروض الشارع الساحرة. في إحدى المرات، كان هناك عرض لفيلم «أميركا أميركا» للمخرج إيليا كازان، واكتشفت فيه عالماً جديداً بعيداً عن رعاة البقر وبهلوانية المسدسات والمطاردات. كازان في ذاك الفيلم كان يحكي قصة عائلته، وكان هناك مشهد خطوبة. قبل أيام من مشاهدتي الفيلم، كانت خطوبة أختي، ففاجأني المشهد حينها، وعرفت بأن بإمكان السينما أن تكشف أشياء خاصة أيضاً. بإمكانها الغوص في دواخلنا نحن البشر، في احتفالاتنا وعلاقاتنا وكل التفاصيل اليومية التي نعيشها. هذا أثّر بي كثيراً وعلق المشهد في ذهني، وعرفت يومها بأن السينما قادرة على الدخول إلى أعماق ما نحياه».
في ثمانينيات القرن الماضي، عاد إلى الناصرة ليصوّر أوّل أفلامه وهو من نوع «دوكودراما» (دراما وثائقية) أسماه «الذاكرة الخصبة» (1980). قدّمه للمرة الأولى للجمهور الفلسطيني والعربي، وحتى العالمي، مازجاً فيه بين الرواية، والقصة، والواقعية المفرطة، ليتبعه بعدها بفيلم من الطينة نفسها «معلول تحتفل بدمارها» (1985) حاكياً عن دمار قرية «معلول» إبان الاحتلال الصهيوني عام 1948. تبع ذلك باكورته الروائية ــ ولربما الأهم في مسيرته ـــ «عرس الجليل» (1987) الذي حاز عليها عدداً كبيراً من الجوائز الرفيعة مثل «جائزة التانيت الذهبي» في «مهرجان قرطاج» وغيرها. في «عرس الجليل»، مزج التسجيلي بالوثائقي بالروائي في آنٍ، من دون أن ينسى خلطته الخاصة من الواقعية: «أخذت المادة الإنسانية الموجودة أصلاً، أدخلتها في الفيلم، وصنعت بها «عرس الجليل». كان التحدي الأساسي هو الكتابة السينمائية القادرة على استيعاب واقع عدم وجود ممثلين، ووجود أناس عاديين رائعين بمقدورهم التعبير عن الكثير من الأشياء. أحاول محو الحدود بين الواقع والروائي، وهذا أساس تجربتي السينمائية. مثلاً عندما عملت على فيلم «الذاكرة الخصبة»، كنت أحاول جرّ الوثائقي إلى الروائي. وفي «عرس الجليل»، جررت الروائي إلى الوثائقي، ربما أتقنت هذه الحيلة كون بداياتي السينمائية كانت مع الأعمال الوثائقية التي تزامنت أيضاً مع دراستي وعملي في المسرح. كنت أحاول دائماً أن أنبش وأفهم دراماتورجيّة الفرد، وأفتش عمّا يستتر خلف الوجوه والعواطف، القلق والضعف، الأمل واليأس... «عرس الجليل» كان تعبيراً عن حبي للناس».

جاءته عروضٌ كثيرة كي يصبح «مخرجاً هوليودياً» لكنه رفض أن يكون «مجرد ترسٍ في تلك الآلة»

تتميّز أفلام خليفي بكونها تطرح أسئلة أكثر من إجابات، إنه يترك المشاهد يحصل على إجاباته الخاصة. في «الذاكرة الخاصبة»، نجده يقدّم شخصيتين متشابهتين ومتباعدتين في آنٍ معاً. هو لا يحاول أن يفرض رؤيته على المشاهد، بل يريد للأخير أن يختار ما يريد أن يفهمه من القصة خلف الفيلم: سيدتان؛ فرح حاطوم الأرملة والجدّة التي تعيش مع أحفادها في الداخل الفلسطيني المحتل، وسحر خليفة الأديبة والكاتبة الفلسطينية التي تعيش في الضفة الغربية. على رغم جماليّته، إلا أنّه يؤخذ على الشريط أنه صوّر الصراع كما لو أنه صراع بين الذكورة والأنوثة في المجتمع الفلسطيني، فيما الصراع الرئيسي والأساسي هو مع الصهاينة من جهة، والذكورية السامة من جهة أخرى. الأمر نفسه ينسحب على «عرس الجليل» الذي تناوله المخرج بمهارة، وبكاميرا تتحرك بسلاسة مطلقة، لكنه في الوقت نفسه وقع في فخ الكليشيهات في لحظةٍ ما: هو قدّم مشهداً رمزياً حيث «العجز الجنسي» لدى العريس يشير إلى أنَّ الاحتلال كسر «رجولة» الفلسطيني. في الوقت نفسه، يمكن اعتبار خليفي أحد أكثر المخرجين العرب -لا الفلسطينيين فحسب- مرونةً. يشير إلى أنَّه رغم انتهاجه سينما واقعيةً، هو يريد إيصال رسائله على طريقته: «أنا جئت من الناصرة، علاقتي بفلسطين محكومة بأوضاع فلسطينيي الداخل. كان مهمّاً أن أحافظ على إمكانية العودة إلى فلسطين، من دون أن أوضع في خانة الممنوعين أو الملاحقين. لديّ عائلة وحياة هناك، وهذا ما دفعني إلى البحث عن لغة سينمائية تقول الأشياء الأساسية العميقة في التجربة الإنسانية الفلسطينية، وتتضمّن خطابي السياسي الذي لا يحتلّ الواجهة ويبتعد عن المباشرة، من دون أن أسمح للعدو (الاحتلال) أن يحاصرني أو يمنعني.
لأنني قادم من المسرح؛ حاولت إيجاد طريقة مختلفة للتعامل مع الواقع الفلسطيني برؤية فنية جديدة (م. خ)

ولأنني قادم من المسرح ومحبّ له؛ حاولت أن أجد طريقة مختلفة للتعامل مع الواقع الفلسطيني برؤية فنية وثقافية جديدة». يعرف خليفي تماماً بأن الصهاينة سيضعونه كما فعلوا مع كثيرين غيره على «قائمة الممنوعين» من الدخول أو الخروج، أو حتى سجنه ومحاكمته كما فعلوا أكثر من مرة، وليست آخرها بالتأكيد ما حصل مع مخرج «جنين جنين» محمد بكري. جاءته عروضٌ كثيرة كي يصبح «مخرجاً هوليوودياً» لكنه رفض أن يكون «مجرد ترسٍ في تلك الآلة: هذه السينما لا تهمني، لا كمتفرّج ولا كصانع أفلام. سابقاً، أتتني عروض عدّة للانتقال إلى الولايات المتحدة والعمل هناك. أحد هذه العروض كان يتطلّب أن أبقى عامين، لأكون جزءاً يفكر في شركة إنتاج كبيرة. وقتها قلت إنّ في المنطق الهوليوودي كثراً مثلي، إن دخلت هذه الآلة سأصبح صانعاً لأفلام يحكمها السوق التجاري والأنماط المفروضة، بينما أنا متحرّر من كلّ ذلك، وأريد أن أبقى كذلك». الصراع بالنسبة إلى خليفي واضح. يعرف ما بداخله، يحدده ويقوده: «أنا ابن الثقافة والقضية، خرجت من أحشائها وسأبقى ملتصقاً بها. بيني وبين فلسطين أكثر من مجرد انتماء، بيننا تحرّر وإرادة وكرامة إنسانية. عندما زرت مخيم عين الحلوة في لبنان قبل سنوات، اعتقد سكان المخيم بأنني من مخيمهم، نتشارك الملامح والبسمة نفسها. كلّنا أتينا من الجليل ومحيطه، والناصرة في طفولتي كانت مخيّماً أيضاً. لا أستطيع الانفصال عن كل ذلك، ولا يمكن أن أتبدل. هناك علاقة عضوية بيني وبين فلسطين، لا قوة في العالم تستطيع فصلها».

* بعد جولة عروض على المخيمات الفلسطينية بحضور المخرج، يعرض اليوم «الذاكرة الخصبة» في «مسرح بيريت» الجامعة اليسوعية (بيروت ــ الساعة 7:30 مساءً) بحضور ميشيل خليفي. في 8 آذار (مارس)، يُعرض فيلم «حكاية الجواهر الثلاث» في «مانشن» (زقاق البلاط ـــ الساعة 7:00 مساءً). الشريط يلاحق يوسف الصغير الذي يعيش مع أمّ وأخت تنتظران أباً في سجون الاحتلال، وأخاً متوارياً مع الفدائيين. كذلك، يعرض فيلم «نشيد الحجر» بحضور المخرج، في مكتبة «برزخ» في الحمرا (7 آذار ــ الساعة 7:00 مساءً). وتُختتم التظاهرة بعرض فيلم «عرس الجليل» بنسخته المرمّمة بحضور المخرج (10 آذار ـــ متحف سرسق، الأشرفية ــ الساعة 7:00 مساءً). تُقام ندوة حول سينما ميشيل خليفي يحاوره هادي زكّاك وربيع شامي في التاسع من آذار (مارس) في مركز «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» (تلة الخياط ـــ الساعة 6:00 مساءً). للاستعلام 03/888763