شهر شباط (فبراير)، على الأقل في برلين، هو للسينما فقط. يقام «مهرجان برلين السينمائي الدولي» في دورته الثالثة والسبعين هذا العام من 16 إلى 26 شباط. بعد العودة المظفرة لـ«مهرجان كان» و«البندقية» العام الماضي، ستتجه الأنظار إلى برلين لمعرفة ما إن كان المهرجان الألماني قادراً على التعافي بنجاح من قيود عصر كورونا. للمرة الأولى منذ بداية الجائحة، سيقام المهرجان من دون قيود على الجمهور والضيوف. كلنا سننظر إلى أداء المهرجان والحدث المصاحب له، سوق السينما الأوروبية (EFM)، كمقياس للصحة العامة للصناعة السينمائية. أكثر بقليل من «مهرجان كان» وبكثير من «البندقية»، «برلين» هو مهرجان يركز على السينما كفنّ بعيداً عن التجارة والأرباح. الأفلام التي غالباً ما تفتقر إلى الدعم من الاستوديوات الكبرى، تعتمد على فسيفساء الموزعين المستقلين المتواجدين في برلين لتحقيق الانتشار والنجاح في جميع أنحاء العالم. وهذا تماماً ما أشار إليه المدير الفني للمهرجان كارلو شاتريان: «كل فيلم تقريباً يحتاج إلى مهرجان سينمائي ليحيا حياته، الأفلام المستقلّة بدون مهرجان معرّضة لخطر الزوال».
أول فيلم أنيمي يُعرض في مسابقة برلين الرسمية منذ عام 2002 يقدّمه الياباني ماكاتو شينكاي بعنوان Suzume

لطالما كان «مهرجان برلين»، احتفالاً سينمائياً سياسياً. الأفلام السياسية تجد دوماً مكانها بين أروقة المهرجان، وهذه السنة بالتحديد التركيز على السياسة قوي جداً. لن تكون السياسة والحروب والانتفاضات الشعبية داخل الصالات فقط، بل أيضاً على السجادة الحمراء. «يدين البرليناله بشدة حرب روسيا العدوانية المستمرّة، التي تنتهك القانون الدولي، ويعرب عن تضامنه مع الشعب الأوكراني وكل من يناضل ضد هذه الحرب. كما يقف المهرجان مع المتظاهرين الشجعان في إيران وهم يدافعون عن أنفسهم ضد نظام عنيف وغير ديمقراطي. المهرجانات السينمائية أماكن تعزز حرية التعبير والحوار السلمي. مع الحرب العدوانية المستمرة ضد أوكرانيا، والاحتجاجات الشجاعة في إيران، وكذلك في العديد من مناطق العالم الأخرى، يقف مهرجان برلين في عام 2023 بقوة أكبر من أجل القيم الديمقراطية، ويتذكر ضحايا الحرب والدمار والقمع جميعاً، حول العالم». هذا ما جاء في البيان الصحافي الرسمي للمهرجان. ولم يتوقف الأمر على هذه الكلمات، بل ستكون هناك أفلام وفعاليات مختلفة ستركز على إيران وأوكرانيا. كما كشف شاتريان والمديرة التنفيذية مارييت ريسنبيك أن ألوان البرليناله هذا العام ستكون زرقاء وصفراء، لونَي العلم الأوكراني. سيكون الممثل الأميركي شون بن في برلين لعرض فيلمه الوثائقي الجديد «القوة العظمى» (شارك في إخراجه مع آرون كوفمان) الذي صوّر جزءاً منه في أوكرانيا العام الماضي. الشريط يصوّر الصراع بين فولوديمير زيلينسكي، الممثل الكوميدي الذي أصبح رئيساً لأوكرانيا، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والحرب الدائرة في أوكرانيا. بالإضافة إلى الأفلام الكثيرة من إيران وأوكرانيا، سينظم المهرجان فعاليات منفصلة على السجادة الحمراء تضامناً مع شعب البلدين.
مفاجأة الدورة الثالثة والسبعين لـ «مهرجان برلين»، هي الحضور الألماني القوي في أفلام المسابقة الرسمية: هناك أفلام لأنجيلا شانيلك، ومارغريت فون تورتا، وإميلي عاطف، وكريستيان بينزولد، وكريستوف هوشوسلر. الموضوعات المهمة في البرليناله هذا العام هي الوضع السياسي العالمي وتأثيرات تغير المناخ والتنوع والمساواة والنسوية والعائلة والحب والشمولية. مع أفلام متنوعة في جميع أقسام المهرجان مثل «المنافسة الرسمية»، و«البانوراما»، و«المنتدى»، و«العروض الخاصة»، سيعرض المهرجان هذا العام أكثر من 300 فيلم. سيتم تقديم الدببة الذهبية والفضية للفائزين من قبل لجنة تحكيم دولية مكوّنة من سبعة أعضاء، برئاسة الممثلة الأميركية كريستين ستيوارت. كما سيكون المخرج والكاتب الاسكوتلندي مارك كازنز أحد أعضاء لجنة تحكيم الأفلام الوثائقية، والمخرجة المصرية أيتن أمين مخرجة فيلم «سعاد» (2020) ضمن لجنة تحكيم تقدم جائزة أفضل فيلم أول. 18 فيلماً تتنافس على جائزة الدب الذهبي، ستضم مزيجاً غنياً من أسماء معروفة ووافدين جدد، منها ستة أفلام من توقيع مخرجات. 11 مخرجاً شاركوا في المهرجان من قبل، ثمانية منهم في المسابقة الرسمية، وثلاثة أسماء تشارك للمرة الأولى. سيفتتح المهرجان هذا العام الفيلم الكوميدي الرومانسي «جاءت إلي» للمخرجة الأميركية ريبيكا ميلر من بطولة آن هاثاواي ونيكول كيدمان وستيف كاريل. وسيحصل المخرج الأميركي الكبير ستيفن سبيلبيرغ على جائزة الدب الذهبي الفخرية عن إنجازات مدى الحياة.
يعود الألماني كريستيان بتزولد إلى البرليناله مع Afire ويجتمع مرة أخرى مع بولا بير، التي فازت بجائزة الدب الذهبي لأفضل ممثلة عن فيلمه Undine عام 2020. جديده قصة أربعة شبان في بيت عطلة على ساحل بحر البلطيق، ثلاثة منهم يستمتعون لكنّ واحداً يكافح، خصوصاً بعد احتراق الغابة وتحول السماء إلى اللون الأحمر. حلم يقظة بتزولد الجديد هو دراما مأساوية تتلألأ مع ألوان النيران. الألمانية الفرنسية الإيرانية إيميلي عاطف، تعود إلى برلين بعمل رومانسي بعنوان Someday we’ll tell each other everything تدور أحداثه في صيف عام 1990، حيث تقوم ماريا بإنشاء ملجأ لها في مزرعة على حدود لم تعد موجودة، وتلتقي ابنة التسعة عشر عاماً برجل كاريزماتي يكبرها سناً بكثير لتبدأ علاقة حب بطريقة حسية وخامة لا ترحم. الفيلم الأول للاستيباليز أوروسيولا بعنوان 20000 Species of Bees. المخرجة الباسكية تتبع قصة فتاة تبلغ ثماني سنوات في صيف واحد في منزل قروي جنب مزرعة لتربية النحل. هناك تستكشف هويتها مع نساء أخريات في عائلتها. الكندي مات جونسون يقدّم فيلمه «بلاكبيري» الذي يرسم تاريخ الهاتف الذكي المشؤوم، الذي أصبح أداة الأعمال التي لا بد من امتلاكها في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قبل أن تستسلم الشركة الكندية الأم للنزاعات القانونية وتفقد ميزتها السوقية.
غزير الإنتاج الفرنسي الكبير فيليب غاريل وأطفاله الثلاثة لويس وإستير ولينا معاً للمرة الأولى على الشاشة. Le Grand chariot يتبع ثلاثة أشقاء وهم أحدث جيل في عائلة من محرّكي الدمى. يختبر الفيلم حدثاً مأساوياً يجعلهم يفكرون في رغبتهم في مواصلة العمل الذي ورثوه عن أجدادهم وأهلهم. أول فيلم أنيمي يُعرض في مسابقة برلين الرسمية منذ عام 2002، عندما فاز فيلم هاياو ميازاكي بجائزة الدب الذهبي عن فيلمه Spirited away، يقدمه الياباني ماكاتو شينكاي بعنوان Suzume. الفيلم الذي لاقى نجاحاً باهراً في شباك التذاكر الياباني، يُعرض في «مهرجان برلين» وأوروبا للمرة الأولى. سوزمي، 17 عاماً، فقدت والدتها عندما كانت طفلة صغيرة، وفي طريقها إلى المدرسة، تلتقي بشاب غامض. فضولها يفتح الباب لكارثة تعرّض جميع سكان اليابان للخطر. لذلك شرعت في مغامرة لتصحيح الأمور وإغلاق أبواب الكارثة. فيلم رسوم متحركة آخر يُعرض في المسابقة الرسمية من إخراج الصيني ليو جان، Art College 1994 يتبع طلاباً جامعيين عالقين بين التقاليد والحداثة. يتشابك الحب والصداقات مع مساعيهم الفنية ومثلهم العليا وطموحاتهم، بينما في الخلفية نرى الإصلاحات التي تفتح الصين على الغرب. فيلم آخر من الصين بتوقيع زانك لو بعنوان The Shadowless Tower يتبع حياة والد عازب في منتصف العمر، يتجوّل في المطاعم المحلية في بكين بينما يبحث عن منظور جديد للحياة.
القوة الرائدة لحركة السينما الألمانية الجديدة، مارغاريت فون ترودا تقدّم فيلمها الأول الذي يُعرض في مسابقة برلين، منذ فيلمها Heller Wahn عام 1983 (صاحبة أفلام «روزا لوكسمبورغ» / 1986 و«حنة آرنت»/ 2012). المخرجة الأولى في ألمانيا التي قدّمت النسخة الأنثوية الأكثر استدامة ونجاحاً في تاريخ الأفلام الألمانية بعد الحرب، تعود بفيلمها Ingeborg Bachmann – Journey into The Desert. وكما يكشف عنوانه، يتحدث الفيلم عن الأديبة النمسَوية أنغبورغ باخمان، خصوصاً علاقتها مع الكاتب المسرحي والروائي ماكس فريش عام 1958، عندما يقعان في الحب، يفترقان، ثم تمرض وتهرب أولاً إلى الصحراء ثم إلى إيطاليا. لا يركز الفيلم على نهاية باخمان المروّعة ولكن على تطلعاتها إلى الحب والاحترام في الأدب والحياة.
18 فيلماً تتنافس على جائزة الدب الذهبي، تضم مزيجاً غنياً من أسماء معروفة ووافدين جدد


لقد مرّ 20 عاماً منذ أن فاز الأسترالي أيفان سين للمرة الأولى بجائزة البرليناله عن باكورته Beneath Clouds. فيلمه الجديد Limbo، يتتبع ترافيس المحقّق الذي يعيد فتح قضية امرأة من السكان الأصليين قُتلت قبل 20 عاماً. الناس في بلدة الضحية الصغيرة النائية وعائلتها صامتون لأن الشرطي أبيض والحقيقة معقّدة. كما هو معتاد من إيفان سين، يعود إلى تاريخ أستراليا وحياة شعوبها الأصلية. عادت أنجيلا شانيليك الحائزة جائزة الدب الفضي في عام 2019 عن فيلمها I was at home, But إلى المسابقة مرة أخرى بفيلمها Music الذي تعيد فيه صياغة أسطورة أوديب في إطار معاصر.
أحد أعظم صانعي الأفلام الوثائقية، الفرنسي نيكولا فيليبير يعود إلى برلين بعد فيلمه La Maison De La Radio (2013). جديده Sur L’adamant يدور في مركز رعاية نهاري عائم يطفو على نهر السين في قلب باريس، يستقبل المركز البالغين المصابين باضطرابات عقلية، ويتتبع الحياة اليومية للمرضى ومقدمي الرعاية الذين يبتكرون طرقاً جديدة للعلاج. يقدم المركز نوعاً من الرعاية تساعدهم على التعافي أو الحفاظ على معنوياتهم. يحاول الفريق الذي يدير المركز مقاومة تدهور الطب النفسي وتجريده من إنسانيته.



المشاركات العربية: لبنان وسوريا وشيء من اليمن
على الرغم من عدم وجود أي فيلم عربي في المسابقة الرسمية هذا العام، إلا أن السينما العربية موجودة في مسابقات وأقسام مختلفة من المهرجان. لعل أهم الأفلام العربية المشاركة في قسم «بانوراما» هو «المرهقون» للمخرج اليمني عمرو جمال. نادراً ما نرى أفلاماً يمنية في المحافل الدولية. في «المرهقون»، يصوّر جمال قصة واقعية حدثت داخل دائرة أصدقائه، وفي خلفية أكثر الحروب تدميراً في اليمن. يقدم لنا دراما عائلية ولمحة عن مجتمع وبلد كان رائداً على الساحة الثقافية والعلمية، واليوم الأخبار التي تأتينا منه هي فقط عن الحرب.


يقدم الفيلم قصة إسراء وزوجها أحمد وأطفالهما الثلاثة الذين يعيشون في مدينة عدن الساحلية القديمة في جنوب اليمن. اعتاد أحمد العمل في التلفزيون، ولكن بعد عدم دفع راتبه بسبب الحرب والأزمة الاقتصادية، أصبح الآن يكسب ماله كسائق. عندما تحمل إسراء بشكل غير متوقع، يواجه الزوجان أزمة. كلاهما يعرفان أنهما لا يستطيعان تحمل كلفة طفل رابع، فهما على وشك الانتقال إلى شقة أرخص، كما أن الرسوم المدرسية للأطفال مستحقة الدفع. يقرّران الإجهاض، ويتحول القرار إلى رحلة ملحمية يحاول فيه الاثنان محاربة المجتمع والدين والسياسة.
بفيلم «مستوحى من الحرير»، تقدم المخرجتان اللبنانيتان ميشيل ونويل كسرواني فيلمهما القصير «يرقة» (30 دقيقة) عن أسماء وسارة، نادلتين تعملان في أحد مقاهي باريس. كلاهما من بلاد الشام تحملان معهما ظلال الماضي، كل على طريقتها الخاصة. تتصادقان وتجدان أرضية مشتركة تعود إلى الوقت الذي كانت فيه مدينة ليون مرتبطة بوطنهما عبر طريق الحرير. في منطقة تمزقها التقاليد والحداثة والحرب ودوائر النفوذ الجيوسياسية والهجرة والدين، اكتشفت المخرجة اللبنانية ليا نجار رابطاً غير عادي: لعبة كش الحمام التقليدية القديمة في بلاد الشام، باعتبارها هواية أو مهنة أو تراثاً أو إدماناً، تمتد عبر شبكة فريدة من سوريا إلى لبنان، تربط الناس من جميع الأديان والانتماءات السياسية. كش الحمام لعبة حظ مع الحمام فوق أسطح المنازل في المدن. كل لاعب يحمل قطيعه الخاص من الطيور على السطح ويسمح لحمامه بالدوران فوق منزله، على أمل جذب حمام جاره إلى سطحه، وبالتالي زيادة قطيعه. تنطلق ليا في فيلمها «كشكش» في رحلة عبر لبنان، من السطح إلى السطح، لنتعمّق في حقائق صائدي الحمام وعوالمهم الموازية المتناقضة. صورة وثائقية لمنطقة تبحث عن القاسم المشترك في مجتمع تحدده الاختلافات.
طلال ديركي وهبة خالد من منفاهما في برلين ومعهما علي وجيه يقدمون فيلمهما الوثائقي «تحت سماء دمشق». شريط يكشف الحياة اليومية السورية خلال سنوات الحرب، وينظر مباشرة إلى حال المرأة في سوريا، حيث الحياة اليومية سمتها العنف ضد المرأة داخل الأسرة وفي مكان العمل. في دمشق، اجتمعت مجموعة من الممثلات الشابات للبحث في موضوع وضع النساء المريضات في أجنحة الطب النفسي ونادراً ما يتم الإبلاغ عن سوء المعاملة الشديدة. يخططن لاستخدام البيانات المجهولة المؤثرة لعدد لا يحصى من النساء لتقديم مسرحية من شأنها كسر المحرمات. لكن إليانا وإينانا وفرح وغريس وسهير يواجهن مقاومةً، من عائلاتهن وحتى أثناء المناقشات داخل المجموعة نفسها. عندما يواجه مشروعهن النسوي فجأة عقبات غير متوقعة، يتعرض حماسهن لأقسى اختبار. تضع هبة خالد صورَ واضطهاد المرأة السورية في سياقها وتقارن بين قصتها وقصة الممثل صباح السالم. السوري يزن ربيع يقدم فيلمه القصير «عودة»، هو الذي غادر وطنه، لكنه لا يستطيع الهروب من كابوس متكرر عن ملاحقته من قبل قوات أمن الدولة بينما يبدو المنزل الذي يمكن أن ينقذه بعيداً عن متناوله.