صراخ وكلمات نابية بحق الربّ. هذه هي الكلمات الأولى التي نسمعها من فم بول (مارلون براندو). يغلق عينيه، يغطي أذنيه بيديه. الألم ينضح من وجهه. صوت المترو الذي يمر على السكة الحديدية يكاد يصم الآذان، لكنه يوازي الضجيج الداخلي الذي يعصف بالرجل. في الثواني الأولى، نتيقن بأننا أمام كائن محطم.يمشي بول متثاقلاً. تمر أمامه شابة جميلة تحمل حيوية وسعادة تناقضان كآبته وشيبه الباهت. هو لم يلتفت إليها أصلاً. هما لا يعلمان، لكنهما يمشيان إلى المصير ذاته: إلى شقة كبيرة غير مأهولة معروضة للإيجار. دوافعهما بالطبع مختلفة. جين (ماريا شنايدر) تريد مكاناً دائماً تستأجره. أما بول فهذا ملجؤه المؤقت، يريد مكاناً مظلماً وموحشاً تماماً مثله. هي تدخل، تجده جالساً في زاوية مظلمة. يتبادلان حديثاً مقتضباً عن الشقة. يرن الهاتف «لا يوجد أحد هنا» ويقفل بول السماعة. فعلياً هما سيبقيان «لا أحد» بين جدران هذه الشقة.
هما وحدهما لكن طاقة غريبة تجمعهما، يقترب أحدُهما من الآخر، يبدأ بتقبيلها، تستجيب جين، تلف ساقيها حوله. رغبة لم يقيدها أنهما مجهولان إلى بعضهما وشغف لم يحده تناقضهما الفاقع. هكذا يبدأ فيلم المخرج الإيطالي بيرناردو بيرتولوتشي (1941 – 2018) «التانغو الأخير في باريس» (1972). من الجنس بين غريبين، من الهروب إلى الجنس والتداوي به ربما. لكن الأهم من الجنس هو التضارب الواضح منذ الثواني الأولى للقاء، منذ أن كان قابعاً في الظلام لتأتي هي مصرة على فتح النوافذ علّ الضوء يمحو العتمة.
تتطور العلاقة. هو سيبقى «هو» فقط وهي كذلك. لا يريد بول كشف اسمه ولا معرفة اسمها. لا يوجد شخصان هنا، سيتم إلغاؤهما خلال العلاقة. لماذا؟ حفاظاً على المسافة المطلوبة التي تعوق أي أذية أخرى لبول. جين لم تعجبها الاتفاقية، تبدو محبطة، هي نقيضته. هي ترغب بتجريد نفسها من كل شيء، أن تعري نفسها وتكون هي. تتم هذه الاتفاقية برضى الطرفين، لتصبح هذه العلاقة ككل عملية إنكار لا ينتهي، لكنها خيارهما الوجودي الوحيد. هما باتا في صميم شيء مجهول. ينكران بعضهما، ينكران الدين، المجتمع، الحياة التقليدية. هنا بين جدران الشقة، يتجاهل بول نفسه وكذلك تفعل جين. وعند الجسد فقط يتحطم الإنكار، ليعود مع الصمت الذي يتبع العلاقة الجنسية.
يبدأ فيلم بيرناردو بيرتولوتشي من الجنس بين غريبين، من الهروب إلى الجنس والتداوي به ربما

هو يهرب إليها من نفسه من آلامه وأحزانه، ويضعها على السرير بينهما، بينما جين تقبل إليه بكل الفضول والشوق الذي تحمله ابنة 19 عاماً.
صنع بيرناردو بيرتولوتشي فيلم «التانغو الأخير في باريس» في لحظة من الحريات الجديدة للتعبير العام والسلوك الخاص، وقرر صنع فيلم يعكس تعقيدات الحريات الجنسية الجديدة للثقافة. وضع شخصياته المحطمة بين الظلام والنور واللون البرتقالي، مثل الشمس في وقت غروبها. وصنع فيلماً يحمل جرأة وصراحة حول موضوع الجنس، أكثر من أي فيلم آخر، وأخذ من ممثليه أكثر مما يتوقعه أي مخرج. وفي الذكرى الخمسين لصدوره، لا يزال الفيلم يعتاش على تعقيدات الأحاسيس مع الحميمية. مأساة يتقاطع فيها صغر الفرد أمام عظمة المشاعر. هي علاقة المتناقضين التي لا تفتر. الظلام والنور اللذان لا يجدر أن يلتقيا، إلى أن يأتي الحب، ولكن متأخراً. في خضم الإنكار، لم يعودا قادرين على التعرف إلى نفسيهما، بين قيود الجسد خسرا روحيهما. قد تظن أن هذا الفيلم لا يعدو كونه قصة شخصين أرادا الاكتفاء بالجنس لكنهما اصطدما بالحب والمجتمع. لكنّ «التانغو الأخير في باريس» يتعدى العلاقة إلى الاستغلال. كيف يتحول هذا الرابط الجسدي بين شخصين إلى إشباع للحاجات وتضميد للجراح وتسكين للآلام والهروب. توقعات كثيرة فخيبات أمل فجراح لا تندمل. هو مآل إنكار الذات الممزوج بالوحدة والتوق إلى الحميمية، فنصبح أمام شيء هجين لن ينتهي إلا بمأساة.