عام 1933، أُحرقت رواية أريك ماريا ريمارك، «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية» (1929) إلى جانب العديد من العناوين الأخرى في نار أشعلها النازيون، بدعوى أنها «غير وطنية» لأنّ موضوعها المركزي اعتبر أنّ لا بطولات في الحرب، بل مجرّد شباب يموت في مفرمة لحم ودم، أرسلته إليها حفنة من الجنرالات العواجز المهووسين بالأساطير. كتب ريمارك كتابه بناءً على تجربته الخاصة في الحرب العالمية الأولى، خصوصاً موت ملايين الجنود في جبهات مجمّدة لم تتحرك متراً واحداً لسنوات. قبل ثلاث سنوات من الحرق، عرض المخرج لويس مايلستون (وهو نفسه محارب قديم) في هوليوود أول فيلم مقتبس عن الرواية حمل العنوان نفسه. فاز العمل بجائزة أوسكار أفضل فيلم وأفضل مخرج. كان الشريط عظيماً، وصوره خالدة في ذاكرة كل من شاهده، خصوصاً مشهد الخندق بعد انفجار كبير دمّر كل شيء، ولم يبق منه سوى يد جندي مقطوعة معلّقة على الشريط الشائك. مشهد بطل الفيلم بول (لو أيريس) أوصله إلى النجومية. بعد ثوانٍ قليلة من توقيع الهدنة في الفيلم، يخرج بول من الخندق لتلمّس فراشة، فيصاب برصاصة في الرأس. مرة أخرى، عام 1979، حوّل المخرج الأميركي الرواية إلى فيلم، بالعنوان نفسه، عُرض يومها على الشاشة الصغيرة.
اليوم، قرّر المخرج الألماني إدوارد بيرغر تحويل الرواية إلى فيلم طُرح أخيراً على نتفليكس بعدما عرض في مهرجانات سينمائية عدة، ورشّحته ألمانيا ليمثلها في الأوسكار. لا يضر أبداً العودة إلى الكلاسيكيات (الأدب والسينما في هذه الحالة) عندما يتعلق الأمر بتعزيز الرسالة المناهضة للحرب، والإفادة من التكنولوجيا المتاحة للأفلام المعاصرة. لهذا راهن «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية» (2022) على أن يكون «فيلماً ملحميّاً يحمل رسالة مناهضة للحرب». ولكن في الوقت نفسه، هناك شيء قديم ومتكرر في هذا الرهان، يعتمد على الجديد الذي يحمله الفيلم بعيداً عن رسالته البديهية، والتوقعات الذي نحملها مسبقاً عن أفلام الحروب، وفي هذه الحالة يمكننا القول بأريحية بأنّه ليس هناك أي جديد أو شيء غير متوقع.

الدقائق الأولى من الفيلم رائعة: نحن في منتصف ربيع عام 1917 وقد مرّت ثلاث سنوات على الحرب العالمية الأولى. مجزرة كبيرة تحدث في أحد خنادق القتال. جثث الجنود الألمان التي تراكمت في أكوام، تنزع عنها البدلات الملطخة في الدماء، يتم وضعها في أكياس، وإرسالها بالقطار، غسلها في برك كبيرة، إعادة تخييطها في معامل ثم تسليمها إلى المجنّدين الجدد. أحدهم بول بومر (فيليكس كاميرر) المتعطش للذهاب إلى الحرب، يبدأ مشواره كحلم قومي، لكنه ينهار على الفور ويصبح صراعاً من أجل البقاء. في الساعتين القادمتين، سنرى رعب تلك الحرب، الذي ينتقل من الوطنية الفائضة إلى المعاناة من اللامبالاة المتزايدة لرؤسائه، وعناد الجنرال أولبريشت (ديفيد ستريسو) الذي يعتبر أنّ الشباب جزء من التضحية التي يجب تقديمها لغرض أسمى. في الوقت نفسه، نشاهد قصة جانبية بطلها ماتياس أرزبيرغر (دانيال برول)، أحد أولئك الذين غيّروا موقفهم في الحرب وترأس الوفد المفاوض لإيجاد تسوية لإنهاء النزاع مع الفرنسيين.
وقت كبير من الفيلم نقضيه في الخنادق، ومشاهد الحرب صوِّرت بطريقة جيدة للغاية مع الكثير من اللقطات التي رأيناها في أفلام سابقة مثل «1917» لسام مندز و«إنقاذ الجندي راين» لستيفن سبيلبيرغ ووثائقي «إنهم لن يشيخوا» لبيتر جاكسون. الفيلم بطبيعته الحربية غامر، يتبع الجنود من مسافة قريبة جداً ويخوض معهم الصعوبات والقتل وساحات المعارك المليئة بالجثث والدماء. القصة الفرعية والسياسية بأكملها بسيطة إلى حد ما، كأن المخرج لم يكن مهتماً بها كثيراً كاهتمامه بتصوير أهوال الحرب. إنه ليس فيلماً يراهن كثيراً على تطوّر شخصياته. الجميع جنود شباب تستهلكهم الوطنية ويواجهون المصير نفسه. لذلك، يصعب التواصل أو التعاطف معهم حتى لا نستطيع تمييزهم عن بعضهم بسبب الوحل والدماء على الوجوه. تدريجاً، تتطوّر شخصية بول عندما يرى الفظائع في القتال، فيمتزج عنصر التعاطف الإنساني مع الطبيعة العدوانية التي يحتاجها لإنجاز مهامه. لكنّ العديد من هذه العواطف عديمة الفائدة في الحرب وفي الفيلم، كعدم فائدة رؤية جندي يعتذر من جندي قتله قبل لحظات.
إذا كان الفيلم يتمتع بحظوظ لنيل أوسكار، فهو بسبب السياق الحالي الذي يأتي فيه


هناك تناقض موجود في كل أفلام الحروب، إنهم يخبروننا عن أعمال بطولية للجنود، ومع ذلك يريدون من الفيلم أن يكون تعليقاً على الوحشية الرهيبة للأحداث. يريدون إظهار فظاعة الحروب، ومع ذلك يعيشون على أساس القصص التي تنتجها الحرب، ازدواجية يصعب تحمّلها. كان يمكن أن يكون «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية» مختلفاً عن تلك الأفلام، بسبب مصدره الأدبي المناهض للحرب، لكنه وقع في الفخ كما وقع آخرون قبله. يتبع عمله الوصفة الكاملة لأفلام الحروب التي تصوّر الحرب بالحقائق التاريخية والجنود المتألمين والجنرالات المتغطرسين. حروب صغيرة، قليل من الحزن، عدد من الجرائم البشعة.


«كل شيء هادئ على الجبهة الغربية» ليس بالضرورة فيلماً سيئاً، إنه فيلم حرب نموذجي آخر. لا يقول شيئاً جديداً لم تقله أفلام الحروب السابقة، إذ يفتقر إلى التفرد تحديداً. يقع بيرغر أيضاً في الخطأ العام لأفلام الحروب، التي صاغها فرانسوا تروفو وهي أنّ فن الصور المتحركة بحكم طبيعته ينحت الجمال من الأحداث غير الممتعة في الواقع. انفجار قنبلة يدوية أو سحابة سوداء هي ظاهرة مرعبة ومميتة لجندي في ساحة المعركة، في حين أنها مشهد ترفيهي على الشاشة الكبيرة. لذلك من المستحيل صنع فيلم مناهض للحرب، لأن الصورة المتحركة تخلق عامل الاستمتاع من أحلك لحظات تاريخ البشرية. فيلم «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية» نظيف جداً، ومصوّر بطريقة جيدة لمثل هذا الموضوع الشنيع. وإذا كان لهذا الفيلم المقبول حظوظ لنيل أوسكار أفضل فيلم أجنبي، فهو بسبب السياق الذي يظهر فيه اليوم. إنه فيلم عن التضحية والموت وعدم جدوى الحروب، يأتي في وقت تحدث فيه كل هذه الأشياء.

All Quiet on the Western Front على نتفليكس